زيارة استطلاعية جديدة لصندوق النقد الدولي إلى لبنان، اختتمت بالحثّ "للمرة الألف" على تطبيق الإصلاحات. الإجراءات السياسية والنقدية الاخيرة المحققة "برّاقة"، ولكنها ليست "ذهباً". والصندوق الخبير بـ"معدن" الدول لا يشتري "فوبيجو". وإن أراد لبنان "امتطاء ظهر" الصندوق للحصول على الثقة الدولية والدخول إلى أسواق الائتمان العالمية، عليه أن يفعل أكثر من "تغطيس" الشروط بـ"الماء الأصفر". يجب أن ينطلق لمرة واحدة ونهائية لإقرار إصلاحات بنيوية تتوافق مع التحديات الكبيرة التي يواجهها.
الجديد هذه المرة إبداء المسؤولين اللبنانيين قابلية أكبر لتحقيق ما تبقى من الإصلاحات. وقد وضع وزير المال ياسين جابر عقب الجلسة الختامية التي جمعته بوفد "الصندوق" إلى جانب وزير الاقتصاد عامر البساط، وحاكم المصرف المركزي بالانابة وسيم منصوري، عناوين المرحلة المقبلة، وهي: انتخاب حاكم جديد للمركزي، استقبال بعثة الصندوق في بداية نيسان (مشاورات المادة الرابعة)، إكمال التواصل مع الصندوق في واشنطن خلال اجتماعات الربيع. تظهير البرنامج الإصلاحي الكبير. وذلك تمهيداً لتوقيع اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي.
ما تحقق وما لم يتحقق
صندوق النقد الذي أكّد وقوفه على أهبة الاستعداد، بالتعاون مع المجتمع الدولي، لمساعدة لبنان، قال في البيان الختامي للزيارة إن التحديات مازالت كبيرة. وعلى لبنان وضع برنامج إصلاح اقتصادي شامل يركز على استدامة المالية العامة، واستدامة الدين، وإعادة هيكلة القطاع المالي، ومحفزات النمو الاقتصادي، والحوكمة، وإصلاحات المؤسسات المملوكة للدولة. بالإضافة إلى تعزيز توفير البيانات لتعزيز الشفافية وإثراء عملية صنع السياسات." وهي كلها شروط كانت مدرجة في الاتفاق المبدئي على مستوى الموظفين الذي وقعه لبنان في نيسان 2022، ولم يطبق منها شيء.
في المقابل،ما حققه لبنان من شروط وضعها الصندوق خلال العامين الماضيين، كان ناقصا. تمويل الدولة من مصرف لبنان لم يتوقف كلياً، وسعر الصرف الموحد غير حقيق، ومقيم أكبر من قدرة الاقتصاد على التنافس. والموازنات المتوازنة لا تأخذ في الحسبان خدمة الدين العام، ولا ديون النفط للكهرباء، وهي تقشفية جداً لا تخدم النمو الاقتصادي. فيما قانون السرية المصرفية المقر لا يتطابق مع المتطلبات الإصلاحية والتدقيق في مصرف لبنان لم يفضِ إلى أي نتيجة فعلية.
التسليم جدلا بامكانية السلطة السياسية إقرار ما لم يطبق من إصلاحات قريباً، وتعديل تلك المطبقة، يظل يمثل نصف الحل. فـ"بيضة القبان" التي سترجّح كفة الاتفاق مع صندوق النقد هي "الاعتراف بالخسائر (مقدرة بحوالي 76 مليار دولار) والعمل على توزيعها مع حماية صغار المودعين"، كما طلب الصندوق في الاتفاق المبدئي. في حين أن معظم الافرقاء السياسيين والمصارف يعتبرون أو الأزمة الاقتصادية "نظامية"، وما يعتبره صندوق النقد خسائر ما هي إلا ديون على الدولة ومصرف لبنان يجب إرجاعها. وفي حال تم إرجاع هذه الأموال سواء كان من بيع أصول الدولة ومصرف لبنان واستعمال الذهب، أو إنشاء صندوق استرداد الودائع واعتماد السندات الصفرية والـ Bail In، تنتفي المشكلة وتعود ملاءة المصارف وتعاد أموال المودعين بسهولة.
موقف الصندوق
بين تراتبية المسؤوليات والخسائر بحسب معايير صندوق النقد الدولي، وبين اعتبار الأزمة نظامية تتحمل مسؤوليتها الدولة، كثرت التكهنات مع الزيارة الاخيرة. فالبعض روج ان صندوق النقد سيرضى بما تقره الحكومة ويوافق عليه مجلس النواب بما خص الودائع والمصارف، والبعض الآخر اعتبر أن موقف الصندوق سيكون متشدداً أكثر على منع استعمال المال العام لإطفاء الخسائر. خصوصا بعدما ضيع لبنان كل الفرص التي أعطيت له. معلومات خاصة بموقع "الصفا نيوز" من مصادر مطلعة، أشارت إلى أن "صندوق النقد لم يحدد أي موقف لا من قريب ولا من بعيد بخصوص توزيع الخسائر أو غيرها من القضايا المطروحة. ذلك أن جوهر الزيارة هو استطلاعي فقط. وعليه لم يبد لا تشدداً ولا ليونة كما يعتقد البعض، إنما جمع المعلومات المطلوبة. وفيما يتعلق بالشروط والخطط فهي تتم في المباحثات الثنائية على صعيد الموظفين SLA التي يجريها مع الدول عند الإعداد لتوقيع اتفاق مبدئي. وما يفعله الصندوق مع لبنان خلال الزيارات التفقدية وتوقيع الاتفاقيات المبدئية يفعله مع 196 دولة أخرى يعمل معها". والأمر نفسه ينسحب بحسب المصادر على مواصفات الحاكم المقبل لمصرف لبنان. "فعندما سُئل وفد الصندوق من أحد الشخصيات عن المواصفات المطلوبة لحاكم المركزي تسهيلا لعملية الاختيار، كان الجواب عاما يتوافق مع المعايير المعتمدة عالميا لجهة أن يكون الحاكم شفافاً ونظيفَ الكف وعلى مسافة واحدة من جميع الافرقاء". وقد اعتبر المصدر أن "ما يروج عن الصندوق لا يصيب الحقيقة في الكثير من المواضيع. والبعض يستعمل هذه الطريقة بشكل ملتو للتسويق لمقترحاته أو للتصويب على غيره. وهذا ما لا يدخل به الصندوق لا من قريب ولا من بعيد. والموقف النهائي يصدره الصندوق بوضوح في البيانات الختامية".
رغم كل الصعوبات والتعقيدات فيما خص توزيع الخسائر بشكل خاص، وهي النقطة التي أفشّلت اربع خطط متتالية للحكومات المتعاقبة، فإن التوجه الجدّي هذه المرة عند السلطة السياسية سيكون الاستفادة من الأجواء الدولية والداخلية الداعمة لإعادة الثقة بالاقتصاد. و اعتقادهم فإن استعادة الثقة تضمن وقف الرغبة الجامحة عند المودعين بسحب كل المبالغ الخامدة من النظام المصرفي متى أتيحت الفرصة. على ان تترافق مع تنمية قدرة المصارف لإتاحة سحب الأموال وفقاً للحاجات. وفي حال الوصول إلى مثل هذه المرحلة تصبح تلبية المتطلبات اسهل، ويخف الضغط على القطاع المصرفي وتعود البنوك لتمارس دورها في تمويل الاقتصاد ودعم النمو، وبالتالي القيام بدورها الحقيقي الذي يعيد لها الملاءة المالية. وهذا بالفعل ما بدأ مصرف لبنان بتطبيقه من خلال كل من التعميمين 166 و158 الذين سيجري تطويرها لتسهيل وصول المودعين إلى حقوقهم في المستقبل.