تُعدّ قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية واحدة من أكثر القضايا حساسية وألمًا في التاريخ الحديث للبنان. فمنذ اندلاع الحرب الأهلية وتمدّد النفوذ السوري إلى الداخل اللبناني، تعرّض المئات من المواطنين للاعتقال القسري في ظروف غامضة. ومع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، عاد هذا الملف إلى الواجهة مع تساؤلات جديدة حول مصير هؤلاء الأسرى. خصوصًا بعد تحرير معتقلين من سجن صيدنايا السيئ السمعة، وهروبهم.
واستحوذ مقطع فيديو يُظهر أشخاصًا خرجوا من سجن حماة المركزي بعد سيطرة المعارضة السورية، على اهتمام اللبنانيين على وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب ظهور شخص يُشتبه بأنّه لبناني يدعى علي حسن علي، من بلدة عكّار، كان اختفى قبل عقود داخل سوريا. وكان لافتًا مسارعة أهالي المفقودين اللبنانيين خلال سنوات الحرب الأهلية إلى نشر صور أبنائهم "المخفيين قسراً" سائلين عن مصيرهم وما إذا كان قد رآهم أو تعرّف عليهم أحد الذين تحرروا من السجون السورية أخيرًا.
أين كانوا يُحتجزون؟
وفقًا لتقارير حقوقية وشهادات أهالي المعتقلين، يُقدّر عدد اللبنانيين المعتقلين قسرًا في السجون السورية منذ الثمانينيات إلى اليوم قرابة الـ600. وبعد سقوط العديد من المناطق السورية التي كانت خاضعة للنظام السوري وكشف بعض الوثائق وشهادات الناجين، تبيّن أن هناك أفرادًا على قيد الحياة، لكن عددهم الدقيق لا يزال غير مؤكد. في السنوات الأخيرة، جرى الكشف عن مصير حوالى 100 شخص بين الذين أُفرج عنهم أو تأكّدت وفاتهم.
الأسرى اللبنانيون كانوا يُحتجزون في سجن تدمر، وفرع فلسطين، وهو أحد مراكز الاعتقال التابعة للمخابرات السورية، وسجن صيدنايا، الذي كان يُستخدم لاحتجاز المعارضين السياسيين والمعتقلين من دول مختلفة، ومنها لبنان.
شهادات الناجين وأهالي المعتقلين
يتحدّث الناجون الذين أُفرج عنهم عن ظروف احتجاز مروعة تتسم بالتعذيب الجسدي والنفسي وسوء المعاملة. أمّا أهالي المعتقلين، فيواصلون البحث عن إجابات بشأن مصير أحبائهم، إذ يشكّل غياب أي معلومات عن كثيرين منهم جرحًا مفتوحًا.
وعليه، برزت جهود محلّية ودولية لإغلاق الملف. محليًا، شكّلت لجنة لبنانية خاصة لمتابعة الملف، لكن الجهود كانت محدودة بسبب التعقيدات السياسية. كذلك شكّلت الدولة اللبنانية لجنة أمنية قضائية في عام 2002 للتنسيق مع الجانب السوري لتقصّي المعلومات عن المفقودين اللبنانيين، وسلّمت إلى الجانب السوري قائمة بحوالى 560 شخصًا، بينهم عضو المكتب السياسي في حزب الكتائب اللبنانية بطرس خوند. وقد أكد ذووهم أنهم مسجونون في سوريا، إلّا أن النظام السوري أفرج عن 98 سجينًا لبنانيًا في نهاية عام 2003، وأبلغ الدولة اللبنانية أنه لم يبق أيّ لبناني في سجونه.
أما دوليًا، فضغطت منظمات حقوق الإنسان العالمية، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، على السلطات السورية للكشف عن مصير المعتقلين، ولم يتجاوب النظام.
ومن قصص أسر المخطوفين، يروي أحمد شقيق علي حسن علي، ابن بلدة عكّار، أنّه "بعد أن قرر شقيقي علي الالتحاق بالجيش اللبناني اتجه إلى بيروت لتقديم أوراقه، وتأخر في العودة. ولم تفطن العائلة لغيابه، فهو كان ينزل أحيانًا إلى بيروت أو صيدا ويغيب لأسبوع أو أكثر، واعتقدت العائلة أنه التحق مباشرة في الدورة التي تستمر بضعة أشهر، ولم يكن هناك قدرة على التواصل السهل بين المناطق في خضم الحرب". ولكن الخشية من مصيره تسللت إلى نفوس العائلة حين جاء أفراد من الشرطة العسكرية لمطالبته بالالتحاق بقطعته، منذ ذلك الحين بدأت معاناة العائلة والوالدة في البحث عنه.
وتواردت الأخبار إلى العائلة بأنّه معتقل في سوريا واستمرت رحلة البحث 15 عامًا تعرضت خلالها العائلة لعمليات ابتزاز مالي شديدة، كانت تدفع خلالها لضباط في سوريا لقاء معلومات عن ابنها أو ترتيب مواجهة معه. ويقول أحمد "كان الأشقّاء يعملون من أجل جمع المال ودفعه لقاء جلاء مصير علي على يد بعض الضباط".
ومرت الأعوام ولم تعثر العائلة على أي خبر مؤكد، إلى أن "زار العائلة أحدُ الأشخاص الفلسطينيين بعد حرب نهر البارد 2007، وقال إنّه كان معتقلًا في أحد السجون السورية وإنّه تعرف إلى علي الموقوف في سوريا بلباسه العسكري". ثم انقطعت كلّ الأخبار.
متابعة الملف
وأفاد رئيس المركز الإنساني لحقوق الانسان وديع الأسمر بأنّه "استقى معلومات من ناشطين في حماة ومراسلين إعلاميين عن وجود عدد محدد من اللبنانيين بسجن حماة، لكنّ الاسم الوحيد علي حسن العلي تمّ التأكد منه، وهو فاقد الذاكرة، بالإضافة إلى شخص ثانٍ يجري التدقيق في هويته".
وأكّد الأسمر أنّ "الدولة اللبنانية غائبة تمامًا عن متابعة هذه القضية الإنسانية، ولم تقم بأيّ تحرّك بعد ورود هذه المعلومات"، لافتًا إلى أنّه "جرى تكليف السفير اللبناني لدى تركيا التواصل مع المعارضة، والتأكّد من هويات اللبنانيين الذين كانوا في سجن حماة، وتأمين عودتهم سالمين إلى بلادهم".
وقال: "قبل عام 2005 وثّقنا حواليى260 اسمًا يعتقد أهلهم أنّهم في السجون السورية، تبيّن أن هناك أكثر من 600 معتقل لبناني في سوريا، أغلبهم في سجون المزّة وتدمر وصيدنايا، ولم نعد نعرف ماذا حصل بعد 2011 واندلاع الحرب في سوريا".
وكانت قد عقدت، السبت، لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان مؤتمرًا صحافيًا حول هذه القضية، مؤكّدة أنّ مأساة الأهالي بدأت مع مطلع الحرب في 1975 ولم تنته مع نهايتها في عام 1990 إنّما تستمر حتى اليوم.
وأكّدت اللجنة "استمرار متابعة الملفّ حتّى الوصول إلى الحقيقة"، مشددةً على أن "الدولة اللبنانية مسؤولة عن العثور على الضحايا وتحديد مصيرهم، وعلى مجلس الوزراء اتخاذ الإجراءات الفورية من أجل التأكد من هوية المفرج عنهم من سجن حماة".
تحديات وحلول مقترحة
وتواجه هذه القضية تحديات عدّة، أبرزها "غياب التوثيق الرسمي لحالات الاعتقال. ورفض النظام السوري سابقًا، الاعتراف بالمسؤولية أو تقديم قوائم بالمعتقلين. بالإضافة إلى الصراعات السياسية التي تمنع تبنّي الملف جدّيًا على المستوى الإقليمي والدولي".
أمّا الحلول التي يمكن اللجوء إليها، فهي: إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلّة تحت إشراف الأمم المتحدة، ومواصلة الضغط الشعبي والدبلوماسي للكشف عن مصير المعتقلين، بالإضافة إلى دعم الناجين وعائلات المعتقلين نفسيًا وماديًا.
يبقى أنّ ملفّ الأسرى اللبنانيين في السجون السورية ليس مجرد قضية سياسية أو إنسانية، بل هو جزء من تاريخ طويل من الانتهاكات التي يجب أن تنتهي. ومن المهم التمسك بالأمل. فبعد سقوط نظام الأسد، قد يكون هناك فرصة لإعادة فتح هذا الملف بقوّة لتحقيق العدالة والمحاسبة. هي بارقة أمل أن يعود كلّ معتقل إلى وطنه وعائلته، وأن تُطوى صفحة هذا الملف المأسوي نهائيًّا.