ما إن أُعلن رسميًا عن وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، حتى بدأ النازحون يوضّبون أغراضهم، ويحزمون أمتعتهم، متعطّشين للعودة إلى منازلهم في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، حاملين ذكريات مؤلمة عن النزوح وآمالًا بعودة الحياة إلى طبيعتها. هذه العودة ليست مجرد انتقال جسدي، بل تجربة إنسانية ملأى بالتحديات العاطفية والمادية. الساعة الرابعة من فجر يوم الأربعاء، انطلقت مواكب السيارات من مناطق النزوح، كلّ إلى قريته، مطلقةً أبواق السيارات في الشوارع، في مشهد يثبت عن جديد مدى تعلّق الشعب اللبناني بأرضه.

العودة إلى الدمار

إلّا أنّ مشهد العودة حمل مشاعر متناقضة تأرجحت بين الفرح بالرجوع إلى الأرض، والحزن على الدمار، بين شعور "النصر" وقسوة فقدان الأقارب. بمجرد الوصول إلى القرى الجنوبية والمناطق المتضررة، اختلطت الأحاسيس بصورة المشاهد المروعة. معظم المنازل تعرّضت للدمار الجزئي أو الكلي، والمرافق العامة مثل المدارس والمستشفيات لم تسلم من الاستهداف.

يقول أبو علي، أحد سكان بنت جبيل لـ "الصفا نيوز": "عندما وصلت إلى بيتي، وجدت سقف المنزل منهارًا والأثاث تحوّل إلى رماد. لا شيء يعادل الشعور بأنني أخيرًا عدت إلى أرضي."

التحديات اليومية

العودة إلى المناطق المتضررة تعني مواجهة تحديات كبيرة. البنية التحتية في حالة سيئة، إذ تعاني قرى وبلدات كثيرة من انقطاع الكهرباء والمياه، ونقص في الخدمات الصحية. في البقاع، يروي أحمد، أحد النازحين العائدين، عن صعوبة تأمين مياه الشرب والطعام لأسرته، خاصة بعد تدمير الأسواق المحلية.

رغم المصاعب، تظهر روح التضامن بين السكان. في الضاحية الجنوبية، تعاون السكان على إزالة الأنقاض وإعادة ترميم منازلهم. تقول أم حسن: "الجيران هم السند الوحيد. عندما فقدت منزلي، وجدت عائلتي الجديدة في الجيران الذين بدأوا يساعدونني على البدء من جديد."

لا يمكن تجاهل الأثر النفسي للحرب والنزوح. الأطفال الذين عاشوا التجربة يواجهون صدمات نفسية تحتاج إلى علاج طويل الأمد. تقول هدى، وهي معلمة في إحدى مدارس الجنوب: "الأطفال الذين سيعودون إلى المدارس سيعيشون في خوف دائم من الأصوات العالية. لذلك سنحتاج إلى برامج دعم نفسي عاجلة."

"عدت إلى البيت، لكنني لم أعد إلى حياتي"

رزان، أم لطفلين، عادت إلى منزلها في مارون الراس بعدما قضت أسابيع في مدرسة في بيروت كمأوى مؤقت. تقول: "عندما دخلت المنزل، وجدت كلّ شيء محطمًا. ألعاب أطفالي مغطاة بالغبار والزجاج المهشم. غرفتنا التي كنا نجتمع فيها في المساء أصبحت أطلالًا."

رغم الدمار، بدأت رزان مساعدة زوجها وجيرانها في إعادة تنظيف المنزل وترميم ما يمكن إصلاحه. تضيف: "العودة كانت قرارًا صعبًا، لكننا نريد أن نبدأ من جديد هنا. هذه الأرض تحمل ذكرياتنا وأحلامنا."

أبو فادي من الخيام: "كلّ شيء تغير، لكن الجيران يعيدون الحياة"

أبو فادي، في الستين من عمره، عاد إلى بلدته الخيام بعد تدمير منزله كليًا. عند عودته، أقام في خيمة صغيرة بجوار أطلال منزله. يشارك تجربته مع "الصفا نيوز" ويقول "لا شيء يضاهي الجلوس تحت زيتونة غرستها قبل 40 عامًا. حتى لو لم يبقَ البيت، أشعر أنني عدت إلى روحي."

ويشيد بتضامن المجتمع المحلي: "الجيران يساعدون بعضهم بعضًا في البناء وفي مشاركة الطعام. هذه الروح تجعل العودة ممكنة."

ليلى من الضاحية الجنوبية: "الأمان لا يزال بعيدًا"

ليلى، التي فقدت زوجها في إحدى الغارات، عادت إلى شقتها في الضاحية الجنوبية مع أطفالها الثلاثة، تروي "الشقة لم تعد تصلح للسكن. الجدران متشققة، والماء يتسرب من السقف. لكن ليس لدينا خيار آخر."

وتشعر بالقلق بشأن الأمان المستقبلي. تقول "أطفالي يستيقظون ليلًا خائفين من أصوات الانفجارات حتى ما بعد وقف إطلاق النار. لا أستطيع إقناعهم بأن الحرب انتهت."

حسن من عيتا الشعب: "البداية الجديدة ليست سهلة"

حسن، شاب في الثلاثين من عمره، عاد إلى قريته عيتا الشعب ليجد منزله مهدّمًا بأكمله. يخبر "الصفا نيوز": "لم يتبقَ سوى الأرض. حتى الأشجار التي كنت أهتم بها احترقت. أشعر كأنني أبدأ حياتي من الصفر."

بدأ حسن العمل مع مجموعة من المتطوعين لإزالة الأنقاض وإعادة بناء قريته. يضيف: "البناء من جديد يحتاج إلى وقت، لكن ما يعطيني الأمل هو رؤية الجميع يعملون معًا."

منى من البقاع: "المزارع تتحدث عنا"

منى، مزارعة من البقاع، عادت إلى مزرعتها التي كانت مصدر رزق عائلتها. تقول لـ"الصفا نيوز": "وجدت حقولي محروقة وآبار المياه مدمّرة. شعرت بالعجز عندما رأيت تعب السنوات يضيع في لحظة."

ورغم الخسائر، ستبدأ منى زراعة جزء صغير من الأرض بالتعاون مع جيرانها، وتضيف "الأرض لا تخوننا إطلاقًا. ما دمنا نحن هنا، سنزرع ونحصد."

أمل في المستقبل رغم الألم

قصص النازحين العائدين تُظهر أن العودة ليست سهلة، بل هي رحلة ملأى بالتحديات. ورغم كلّ الألم، يبقى هناك أمل ينبع من تضامن الجيران، والإصرار على إعادة البناء، والتمسك بالهوية والأرض، فيما كلمة "الحمد الله" لم تفارقهم. هذا الأمل هو الذي يدفعهم إلى المضي قدمًا، حتى في أصعب الظروف.

رغم كل التحديات، يحمل النازحون العائدون آمالًا كبيرة. إنّ إعلان وقف إطلاق النار يعزز تطلعاتهم إلى بناء مستقبل أكثر أمانًا واستقرارًا. ومع الجهود الحكومية والدولية لإعادة الإعمار، تزداد التوقعات بإعادة الحياة إلى المناطق المتضررة. فيما المطلوب الآن هو:

إعادة الإعمار: يجب على الحكومة اللبنانية أن تسرع في تنفيذ خطط إعادة إعمار البنية التحتية والمنازل.

دعم دولي: يتطلب الوضع تدخلًا من المنظمات الدولية لتقديم المساعدات الإنسانية ودعم إعادة الإعمار.

برامج نفسية واجتماعية: تقديم دعم نفسي للأطفال والعائلات العائدة أمر حيوي لتعزيز تعافيهم.

العودة إلى الأرض ليست نهاية المعاناة، بل بداية رحلة جديدة ملأى بالتحديات. ومع ذلك، تبقى الأرض هي الملاذ والهوية اللذين يسعى كل نازح إلى الحفاظ عليهما، بغض النّظر عن الصعوبات.