بات واضحاً أن طرفَي الحرب، إيران و"حزب الله" من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، يعانيان مأزقاً متقابلاً يحاصر مهمة الوسيط الرئاسي الأميركي آموس هوكستين في عنق زجاجة الحل.
فلا إسرائيل قادرة على التراجع عمّا حقّقت واشترطت، ولا إيران و"الحزب" قادران على التقدّم نحو إعادة توازن الميدان وتنفيذ الوعود السابقة.
الأولى رفعت شروطها ومطالبها إلى الحد الأقصى حتى درجة التصفية العسكرية، والآخران رفعا ممانعتهما إلى مستوى الرفض التام لهذه الشروط والمطالب ولو تمدّد الصراع وتوسّع.
والحقيقة أن المفاوضات التي يقودها هوكستين بين بيروت وتل أبيب تدور في الظاهر المعلن حول مسألتين إشكاليتين هما شرط إسرائيل بإبقاء مبادرة المراقبة والتدخل في يدها، وتركيبة لجنة المراقبة الخماسية والتحفّظ عن توسيعها وآلية عملها، ولكنّ جوهر الخلاف في عمق الباطن هو مصير سلاح "حزب الله"، ليس فقط في جنوب نهر الليطاني، بل في سائر المناطق وصولاً إلى الحدود السورية والموانىء البحرية والجوية، لمنع إعادة إحيائه وتكوينه.
جوهر الخلاف في عمق الباطن هو مصير سلاح "حزب الله"
وتحرص إيران على إبقاء هذا السلاح، في صيغة أو أخرى وبمناورات وترتيبات ضمنية أو علنية، على مقربة من الحدود الجنوبية كي تحافظ على وظيفته الأساسية وهي بقاؤها على خط التماس المباشر والأخير لها مع إسرائيل بعد تحييد خط الجولان والنظام السوري وفقدانها خط غزة، وكذلك كي تحفظ عنوان "المقاومة الإسلامية" ومبرّر وجودها، لأن أي ابتعاد ميداني عبر منطقة عازلة يناقض مبدأ تحرير الأرض ويُسقط شعار المقاومة.
وهنا تكمن عقدة تفسير القرار 1701 الذي تجهد طهران لتسويق قراءتها له بهدف تفريغه من مضمونه الأهم وهو نزع سلاح "الحزب" جنوب النهر كمرحلة أولى تتصل بمراحل لاحقة ينص عليها القراران 1559 و1680.
وهي، ومعها "الحزب"، ترفض اعتبار القرارات الثلاثة واتفاق الطائف حزمة متكاملة وجسماً واحداً واجب التنفيذ، ولا تزال تأمل في تفكيك هذه الوحدة وإعادة إنتاج الوضع الذي ساد بعد حرب 1996 (تفاهم نيسان) وحرب تمّوز 2006 (بالخلل والالتباسات والخروق المعروفة لقرار وقفها).
وطالما أن إسرائيل تريد وقتاً إضافياً لتغيير الوضع الميداني بشكل أكثر وضوحاً وحسماً، وربما إلى ما بعد 20 كانون الثاني المقبل موعد تسلّم دونالد ترامب سُدّة الرئاسة الأميركية، وطالما أن إيران تراهن على صمود "حزب الله" فترة أطول وتشجعه على استمرار المواجهة وبذل المزيد من التضحيات بما يُجبر حكومة نتنياهو على تخفيض شروطها، فإن ورقة هوكستين، مهما أُدخلت عليها تعديلات تقنية وصياغات لفظية من طراز "حق الجانبَين بالدفاع عن النفس"، ستبقى ورقة في مهبّ الحرب، وقد وصفتها إسرائيل بأنها مجرد ورقة، فيما أكّد الأمين العام ل"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم أمس إستمرار "الميدان التصاعدي" بالتوازي مع المفاوضات، متوعّداً باستهداف قلب تل أبيب ردّاً على استهداف قلب بيروت.
قد تصحّ في هذه الحال المعادلة القائلة بأن الحروب تنتهي إمّا بمنتصر ومهزوم، وإمّا بمهزومَين أي بإنهاك الطرفَين المتحاربَين وحاجتهما إلى تسوية تنقذهما من الانهاك.
فمَن يسمع هدير الدبابات والمعارك الضارية في الجنوب ودوي المسّيرات والصواريخ ورعود الطائرات، مع رفع السقوف السياسية ونبرة التهديدات المتبادَلة، يرى أن الحرب بدأت لتوّها وأن المرحلة مفتوحة على أهداف أبعد من الرقعة اللبنانية الضيّقة، وإلى مدى اتساع الاستراتيجيات الدولية الجديدة من واشنطن إلى موسكو وأوكرانيا وبكين وصولاً إلى إيران وإسرائيل وسائر الشرق الأوسط، في لعبة أُمم قديمة مستحدثة.
قد يكون رهان الأفرقاء المتحاربين على أنفاسهم الطويلة ونجاحهم في استنزاف الأعداء، وإيمانهم الذاتي الديني والدنيوي بحتمية الانتصار، هما اللذان يُطيلان أمد الصراع، ويوسّعان أشداق التنانين، ويُغرقان لبنان في لُجّة الحيتان.