تواجه الأسواق والمطاعم والمتاجر والفنادق الكبرى في لبنان واقعًا صعبًا ومأسويًا في ظلّ العدوان الإسرائيلي المستمرّ على البلاد، وهذا ما أدّى إلى تغييرات جذرية في أنماط العمل اليومي لهذه القطاعات الحيوية. ومع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية، باتت الحياة اليومية محكومة بالخوف والترقّب، وهو ما انعكس بشكل مباشر على هذه المؤسسات الحيوية التي تُعدّ شريان الاقتصاد اللبناني.
المولات والمتاجر الكبرى: إغلاق مبكر وتقليص ساعات العمل
مع اشتداد العدوان الإسرائيلي على لبنان، أصبحت المولات والمتاجر الكبرى تقفل أبوابها عند الساعة السابعة مساءً. هذا القرار لم يأتِ من فراغ، بل استجابة مباشرة للتحدّيات الأمنية والخوف من التصعيد العسكري في المساء. حتّى المتاجر في المناطق الشعبية تأثّرت بشكل مشابه، فراحت تغلق أبوابها في أوقات مبكرة لتفادي أيّ طارئ.
الإغلاق المبكر لم يؤثّر على حركة المبيعات وحدها، بحسب مسؤول المبيعات في أحد المتاجر الكبرى، بل زاد من تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تواجهها هذه المؤسسات. فالزبائن، الذين كانوا يقصدون هذه الأماكن للتسوّق في ساعات المساء، أصبحوا مقيّدين بوقت محدود، فانعكس ذلك سلبًا على الأرباح وزاد من حالة الركود.
ولفت مسؤول المبيعات إلى تناقص رواتب الموظّفين، خصوصًا الذين يتقاضون على الساعة، فمع الإغلاق المبكر أصبح الموظّف يخسر ساعات عمل، ومعها جزءًا من راتبه.
على مقلب آخر، رصد "الصفا نيوز" إعلان بعض المولات عودتها إلى العمل في الساعات التقليدية السابقة، ابتداء من الشهر الجاري إلى انتهاء موسم الأعياد، أي حتى كانون الثاني. ومنها متاجر ABC في جميع فروعها، التي أعلنت إعادة فتح أبوابها من الساعة العاشرة صباحًت إلى الحادية عشرة مساء. في محاولة لتعويض الخسائر وإعادة الحياة إلى الأسواق وجو البهجة في الأعياد، فهل تنجح؟
المطاعم: نهاية الأسبوع فقط
أمّا المطاعم، فقد شهدت تغييرات حادّة في جداول عملها. وبسبب تراجع حركة الزبائن والضغوط الاقتصادية، أصبحت غالبية المطاعم تغلق أبوابها طوال أيام الأسبوع، باستثناء عطلة نهاية الأسبوع التي تشمل الجمعة والسبت والأحد. حتّى في هذه الأيام، فإنّ يوم الأحد يُعتبر أقصر الأيام، إذ تغلق المطاعم أبوابها الساعة السادسة مساءً.
وهذه حال أحد المطاعم العريقة في مدينة جبيل، التي تعد بعيدة نسبيًا عن مسرح الأعمال الحربية، فقد أوضح أحد موظفيه لـ "الصفا نيوز" أن "لا حركة في وسط الأسبوع، وهذا ما أجبر صاحب المطعم على الإقفال، وفتح أبوابه في أيام نهاية الأسبوع. لأن الحركة بدورها تكون كثيفة يومي الجمعة والسبت، ويبقى المطعم حتّى ساعات متقدمة من الليل، فيما تقتصر أيام الأحاد على حركة خجولة في وقت الغداء ولا زبائن بعد الساعة السادسة، لذلك نفضّل الاقفال".
والمشهد نفسه يتكرر في أسواق البترون كما في مطاعم جبيل، وحتى مطاعم جل الديب والزلقا وأنطلياس التي قد لا تقفل أبوابها في أيام الأسبوع، إلّا أنها تعاني من حركة شحيحة، مقابل زحمة خانقة في أيام نهاية الأسبوع. وطبعاً المشهد يتغير حسب توقيت الشهر، فكلما اقتربنا من نهايته كلما قلّ الإقبال. والعكس صحيح.
هذا التغيير في أوقات العمل يعكس محاولات المطاعم للتكيف مع الطلب المتراجع وتوفير النفقات التشغيلية في ظلّ الظروف الراهنة. ومع ذلك، فإنّ الاعتماد على ثلاثة أيام في الأسبوع لاستقبال الزبائن لا يمكن أن يعوّض الخسائر المتراكمة.
فمناطق مثل الجمّيزة ومار مخايل، انطفأت كليًا بعد اشتداد الحرب الإسرائيلية على لبنان، حتى أنّ معظم المحالّ أقفلت أبوابها، وبقيت بضعة بارات صامدة تستقبل روادًا لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة.
الفنادق الكبرى: تراجع السياحة الداخلية والخارجية
لم يكن القطاع الفندقي بمنأى عن هذه الأزمة، بل هو المتضرر الأول منذ بداية الصيف، إذ اقتصرت فيه حركة السياحة على المغتربين الذين يملكون بالأساس منازل في لبنان، وبالتالي لا يحتاجون إلى حجز غرفة في فندق لتمضية عطلتهم الصيفية. مع استمرار الحرب وتدهور الأوضاع الأمنية، تراجعت بشكل كبير حركة السياحة الداخلية والخارجية، وهذا ما جعل الفنادق الكبرى تواجه انخفاضًا حادًا في نسب الإشغال. ثمة فنادق اضطرت إلى تقديم عروض ترويجية لجذب الزبائن المحلّيين، إلّا أنّ الاستجابة بقيت محدودة في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة لمعظم اللبنانيين.
الأسواق الشعبية: نبض الحياة يتراجع
الأسواق الشعبية، التي كانت دائمًا محور النشاط الاقتصادي والحركة التجارية اليومية، تأثرت هي الأخرى بشكل كبير. ومع أنّها تتميز بطبيعتها الشعبية والأسعار المناسبة، جعل الخوف من التصعيد الأمني الحركة فيها تتراجع تدريجيًا. الإغلاق المبكر لهذه الأسواق أصبح أمرًا شائعًا، وهذا ما قلّل من فرص الباعة في تحقيق دخل يومي يكفي لتلبية حاجاتهم.
أمّا "البلاك فرايداي" فمرّ مرور الكرام هذا العام، من دون زحمة سير وصخب. فعلى الرّغم من كثرة العروض، والتخفيضات، نجد الأسواق والمحالّ شبه خالية. فيما الذين قرروا شراء بعض الأغراض، حرصوا على أن تقتصر مشترياتهم على الضروري منها.
تداعيات اقتصادية واجتماعية
هذه التغيّرات في أنماط العمل أثّرت بشكل كبير على العاملين في هذه القطاعات، سواء كانوا موظّفين دائمين أو عمّالًا يعتمدون على الدخل اليومي. كثيرون وجدوا أنفسهم بلا عمل أو بدخل متدنٍ لا يغطّي حاجاتهم الأساسية. من جهة أخرى، انعكست هذه الأوضاع على الزبائن، إذ باتت الخيارات المتاحة للتسوّق أو تناول الطعام أو الترفيه محدودة جدًّا.
محاولات للتكيّف وسط العاصفة
رغم هذه التحديات، يحاول أصحاب هذه المؤسسات التكيّف مع الظروف الراهنة من خلال تقليص النفقات، وتقديم عروض ترويجية، والاعتماد على خدمات التوصيل كبديل لجذب الزبائن الذين يفضلون البقاء في منازلهم. إلّا أنّ هذه الحلول تبدو غير كافية في ظلّ استمرار الحرب وتدهور الأوضاع الاقتصادية.
الأكيد أنّ الأوضاع التي تعيشها الأسواق والمطاعم والمتاجر والفنادق الكبرى في لبنان تعكس بوضوح تأثير الحرب على الحياة اليومية للبنانيين وعلى الاقتصاد الوطني. ومع استمرار العدوان الإسرائيلي وتفاقم الأزمات الاقتصادية، يبدو أنّ هذه القطاعات ستظلّ تعاني على مدى فترة طويلة ما لم يتم التوصّل إلى حلول سياسية وأمنية تنهي الحرب وحالة الفوضى وتعيد الحياة إلى طبيعتها.