تُعدّ الانتخابات الأميركية الحدث السياسي الأهمّ على نطاق العالم الذي ينتظر نتائجها بفارغ الصبر. وبالتحديد، تتجه الأنظار إلى كيفية تأثير هذه الانتخابات على الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط وفي الشرق الأقصى وفي أوروبا الشرقية. ولكنّ الأهم تبقى تداعيات نتائج هذه الانتخابات على الاقتصاد العالمي، وخصوصًا الشرق أوسطي الذي سيتأثّر حكمًا بخيار الناخبين الأميركيين بطرائق مُختلفة.
مسلّمات ومتغيّرات
يتّفق المراقبون على أنّ التداعيات قد تكون عميقة في ما يتصل بالسياسة الداخلية للولايات المتحدة (خارج إطار هذا المقال). وفي المُقابل هناك مُسلّمات خصوصًا على صعيد السياسة الخارجية التي لن تتغيّر بغضّ النّظر عن نتائج الانتخابات، مثل الدعم الأميركي لإسرائيل، الذي يتخطّى اعتبارات الحزبين الديموقراطي والجمهوري ويأخذ طابعًا إستراتيجيًا يُصنّف على أنّه من المُسلّمات الثابتة التي لا تتغير مع الوقت (منذ عهد الرئيس ترومان). وبالتالي، وبمعزل عن نتيجة الانتخابات، يتعيّن على الرئيس المُنتخب إيجاد حلّ للحرب القائمة بين إسرائيل من جهة وغزة ولبنان من جهة أخرى. وهو ما يعني أنّ هناك بعدًا اقتصاديًا سيدخل في اللعبة، أي إعادة الإعمار التي سيكون للدول الخليجية دور محوري فيها.
على صعيد الدول الخليجية
معروف أنّ سياسة الحزب الديموقراطي بالانفتاح على إيران أدّت إلى توتّر في العلاقات الأميركية – الخليجية، وتمثّل الأمر في تباعد بين واشنطن وحلفائها في الخليج، خاصّة خلال أحداث الربيع العربي والمفاوضات النووية مع إيران بين عامي 2013 و2015 والحرب مع الحوثيين. ولعلّ المثال الأبرز على هذا التوتّر تجلّى في عدم حضور بعض قادة دول مجلس التعاون الخليجي قمة كامب ديفيد عام 2015. وإذا كان الرئيس الأسبق دونالد ترامب قد أعاد جزءًا من هذه العلاقة إلى موقعها التاريخي، من خلال اعتماده مقاربة سياسية قائمة على التعاملات التجارية وإتفاقات أبراهام، فثمة دول خليجية ترى أنّ الولايات المُتحدة الأميركية خذلتها في العديد من الملفات الإقليمية، منها الحرب ضد الحوثيين، والصراع الخليجي – القطري، وتعرّض منشآت النفط السعودية لهجوم واسع شنّه الحوثيون في العام 2019 في ظلّ لا مبالاة أميركية، وهذا ما أدّى إلى شكوك خليجية في شأن التزام واشنطن أمن المنطقة، وبالتحديد أمن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المُتحدّة، ودفعها إلى اعتماد إستراتيجية مُختلفة أفضت إلى التفاوض مع إيران، وخفض التوتر واستعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران في العام الماضي.
توجّهت دول خليجية عدة إلى الشرق وطرقت أبواب منظّمة بريكس، وهو ما شكّل جرس إنذار للإدارة الأميركية التي تداركت مدى خطورة انخراط هذه الدول في القطب الاقتصادي الشرقي على المصالح الأميركية. وبالتالي زار الرئيس الأميركي جو بايدن المملكة العربية السعودية في مسعى إلى إعادة العلاقات السعودية – الأميركية إلى مسارها الطبيعي. إلّا أنّ هذا المسعى لم يؤدّ إلى النتائج المرجوة.
عمليًا، سيزيد فوز ترامب في الانتخابات التفاعل الاقتصادي بين الولايات المُتحدة الأميركية ودول الخليج العربي، خصوصًا أنّ هذه الدول تنتهج سياسة التنويع في اقتصاداتها، وهو ما فتح شهية عدد وافر من المستثمرين العالميين الذين يرون في عهد ترامب عهدًا يتجّه نحو الاستقرار العسكري في المنطقة. علمًا بأنّ الدول الخليجية ترى في ترامب ضمانة للسياسة الأميركية المُتبعة منذ سبعينيات القرن الماضي، والمبنية على استقرار المنطقة الأكثر أهمّية لأسواق النفط. أمّا إذا فازت هاريس، فستكون السياسة المُتبعة استمرارًا لسياسة باراك أوباما وبايدن في المنطقة، وعليه، سيكون الوضع في حال من الستاتيكو الذي قد لا يصبّ بالضرورة في المصلحة الأميركية.
بمعزل عن الفائز في الانتخابات الأميركية، فإنّ الرئيس المُنتخب مُلزم بإيجاد حلّ للحرب القائمة بين لبنان وإسرائيل.
على الصعيد العالمي
يُذكّرنا التاريخ بالسياسة الحمائية للرئيس ترامب الذي يعتبر أنّ الصين هي الخصم الأول للولايات المُتحدة الأميركية اقتصاديًا. وبالتالي، هناك توقّعات – في حال فوز ترامب – بأن يتّخذ عددًا من الإجراءات ضدّ الصين، خصوصًا مع تصاعد التوترات الجيوسياسية بينها وبين تايوان، إذ ترى الأخيرة أن الفرصة سانحة في ظلّ الفوضى القائمة من أجل الضغط أكثر فأكثر على الجزيرة للعودة إلى الحضن الأم. هذه الإجراءات ستواكبها إجراءات حمائية من قبل الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيؤدّي إلى زيادة الانقسام بين قطبي الشرق والغرب، وإلى تراجع النمو الاقتصادي العالمي. أمّا في حال فوز هاريس، فيعتقد المراقبون أنّ ليس لديها إستراتيجية واضحة تجاه الصين على الصعيد الاقتصادي، وقد يكون للتصريح الصيني الأخير، والذي عبّر عن رغبة الصين في زيادة التعاون الاقتصادي بينها وبين الولايات المُتحدة الأميركية، ترجمة على الصعيد الاقتصادي بين أكبر اقتصاديْن في العالم.
أمّا على صعيد روسيا، فمن المتوقّع أن يكون الأمر أكثر تعقيدًا مع رغبة ترامب في إنهاء الصراع الروسي – الأوكراني الذي سيحصل على حساب أوكرانيا (أغلب الظنّ) وهذا ما سيستولد انقسامًا بين الولايات المُتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وتراجع ثقة هذا الأخير بالشريك الأطلسي، وسيؤدّي أيضًا إلى زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي (ومعه ازدهار الصناعة العسكرية الأوروبية). في حين يؤدي فوز هاريس إلى استمرار الدعم الأميركي الكبير لأوكرانيا، و إلى زيادة العقوبات الاقتصادية على روسيا وحلفائها.
على الصعيد اللبناني
بمعزل عن الفائز في الانتخابات الأميركية، فإنّ الرئيس المُنتخب مُلزم بإيجاد حلّ للحرب القائمة بين لبنان وإسرائيل. وفي حال فوز ترامب قد تعود صفقة القرن إلى الواجهة من جديد، خصوصًا مع إقرار طريق الهند – أوروبا مرورًا بحيفا، وهو ما سيدفع إلى استثمارات على صعيد المنطقة، وسيكون للبنان حصّة فيها، وخاصة في مجال إعادة الإعمار، وسيكون أيضًا للدول الخليجية دور محوري فيها. هذا كله بالطبع أقلّ وضوحًا مع هاريس التي يعتقد المراقبون أنها لا تملك استراتيجية اقتصادية واضحة داخليًا وخارجيًا. وفي هذه الحالة، تتنوّع السيناريوهات إذ من الممكن تحميل الخزينة اللبنانية تكلفة إعادة الإعمار من باب ديون تُسدّد من الغاز المُستخرج، فيما تطرح سيناريوهات أخرى تمويلًا خليجيًا يُبشّر بعودة خليجية (سعودية وإمارتية بالدرجة الأولى) قويّة إلى الساحة اللبنانية من باب إعادة الإعمار.