يشكّل القصف الإسرائيلي على المواقع الأثرية في لبنان خطراً كبيراً على التراث الثقافي والحضاري للبلاد، إذ إنّ استهداف مواقع تاريخية بارزة مثل مدينة صور، وقلعة بعلبك، وسوق النبطية، وغيرها من المعالم الأثرية، يؤدّي إلى أضرار ثقافية وسياحية لا تُقدّر بثمن، ويؤثّر عميقاً في ذاكرة المواطنين وهويتهم التاريخية.
المواقع الأثرية المستهدفة وأهميتها
مدينة صور: من أقدم المدن اللبنانية، وقد أدرجت ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. وهي تضمّ آثاراً تعود إلى العصور الفينيقية والرومانية، وتعدّ شاهداً على الحضارة القديمة في المنطقة، لذا فإن تدميرها أو الإضرار خسارة لا تعوّض للبشرية.
وشمل القصف الإسرائيلي الأسبوع الماضي، لأول مرّة، أكثر من خمس بلدات في قضاء صور. وقبل هذه الهجمات، ظلت المدينة بعيدة عن نيران الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان.
قلعة بعلبك: من أضخم المعالم الرومانية في العالم. تعدّ هي ومحيطها رمزاً تاريخياً وثقافياً للشعب اللبناني، وتدمير أجزاء منها يمكن أن يؤدي إلى فقدان آثار فريدة لا تُسترد.
قلعة بعلبك: من أضخم المعالم الرومانية في العالم. تعدّ هي ومحيطها رمزاً تاريخياً وثقافياً للشعب اللبناني، وتدمير أجزاء منها يمكن أن يؤدي إلى فقدان آثار فريدة لا تُسترد.
العدو الإسرائيلي استهدف مدينة بعلبك بغارات عدة خلال الأيام الماضية، إحداها على تلال رأس العين، وأخرى على مدخل بعلبك الجنوبي ولم تكتف الغارات بالدمار الكبير في المباني السكنية والمحال التجارية، بل شملت أيضاً مستشفى وموقع قبة دورس الذي يبعد عشرات الأمتار عن المستشفى، وهذا ما تسبب بانهيار قسم من الحجارة العلوية من التاج وزعزعة الأعمدة.
سوق النبطية: هو أحد المعالم الثقافية والتجارية المهمة في الجنوب، ويجمع بين الطابع العمراني التقليدي وروح الحياة اللبنانية التراثية. استهدافه تهديد لنمط الحياة التقليدي ومصدر دخل للمواطنين في المنطقة.
نفّذ الطيران الحربي الإسرائيلي غارة استهدفت وسط السوق التجارية في مدينة النبطية، كبرى مدن الجنوب ومركز نشاطه الاقتصادي، ودمّرته بأكمله.
التأثير في الطابع الثقافي
في هذا الإطار، اعتبرت رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك الدولية نايلة دو فريج، في حديثها إلى "الصفا نيوز" أنّ "استهداف هذه المعالم يلحق ضرراً بالتراث الثقافي اللبناني المتنوّع، ويؤدّي إلى طمس معالم تاريخية تحمل قصصاً وأحداثاً وتحكي تاريخ الشعب اللبناني وتطوّره. تخسر الأجيال المطلة مصادر ثقافية تروي مسيرة الحضارات التي مرّت بلبنان، وتقلّ بذلك فرص دراسة هذه المراحل المهمة في تاريخ المنطقة".
وأشارت دو فريج إلى أنّ "لبنان يعتمد اعتماداً كبيراً على السياحة الثقافية والأثرية مصدراً رئيساً لجذب السياح وتأمين إيرادات الدولة. يمثل القصف الذي يستهدف هذه المواقع ضربة قوية لقطاع السياحة، إذ يقلّل من جاذبية لبنان كوجهة سياحية. كما أنّ تدمير هذه المواقع ينعكس سلباً على عوائد قطاع السياحة، ويؤدي إلى تراجع فرص العمل وانخفاض دخل المواطنين العاملين في هذا المجال".
ولفتت إلى أنّ "المعالم الأثرية تعتبر جزءاً من الذاكرة الجماعية للشعب اللبناني، إذ تشكّل رابطاً تاريخياً يربطهم بأسلافهم ويعزز شعورهم بالفخر والهوية. إنّ تدمير هذه المواقع يشكّل نوعاً من الاعتداء على ذاكرة الشعب ويزرع الألم لدى المواطنين الذين يرون تراثهم يتعرض للتدمير. ويؤثر ذلك على الروح الوطنية والانتماء، كما يخلق شعوراً بعدم الأمان والاستقرار".
وأضافت دو فريج "يمكن اعتبار استهداف المعالم الأثرية جزءاً من سياسة القمع الثقافي، إذ تسعى الهجمات إلى محو آثار الهوية الثقافية والتاريخية للشعوب، وهذا ما يزيد من الضغط النفسي والاجتماعي على الشعب اللبناني، ويؤدي إلى محاولة طمس أثره الحضاري في المنطقة. يمثل هذا النوع من الاستهداف تحدياً للبنان في حماية تراثه من الاندثار"
على مقلب آخر، اعتمد المجلس التنفيذي لليونسكو في دورته الـ 220 بتاريخ 21/10/2024، بإجماع أعضائه ومن دون أي تعديلات، مشروع قرار تقدّمت به بعثة لبنان لدى اليونسكو تحت عنوان "تقييم الوضع الراهن في لبنان في ما يخص مهمة اليونسكو". ونصّ القرار، الذي دعمته 66 دولة، على آلية محدّدة من ثلاث مراحل ستتبعها اليونسكو: أولاً تقييم الوضع وتحديد حاجات لبنان؛ ثانياً رسم أمانة اليونسكو خطة عمل؛ ثالثاً إنشاء صندوق طوارئ يؤمن تنفيذ خطة العمل وتموّله الدول الأعضاء. وحدّد القرار ثلاث أولويات هي القطاع التربوي والعلمي؛ التراث ولا سيما المواقع اللبنانية المدرجة على لائحة التراث العالمي مثل بعلبك وعنجر وصور؛ الإعلام وسلامة الصحافيين.
وبالتوازي مع اعتماد هذا القرار، دعت بعثة لبنان لدى اليونسكو إلى عقد جلسة استثنائية للجنة المنبثقة من البروتوكول الثاني عام 1999 لمعاهدة لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلّح، بغية تفعيل الحماية المعززة التي تنص عليها المعاهدة لمصلحة المواقع الأثرية اللبنانية. وتقدّمت البعثة أيضاً بطلب إضافة بند عن حماية الصحافيين في لبنان إلى جدول أعمال الدورة 34 لأعمال المجلس الحكومي الدولي للبرنامج الدولي لتنمية الاتصال (IPDC) التابع لليونسكو والمنوط به تعزيز سلامة الصحافيين.
سبل الحماية والمواجهة
ولمواجهة ما يحصل، هناك العديد من الخطوات التي يمكن اعتمادها، منها:
التوعية الدولية: من المهم أن يسعى لبنان إلى حشد الدعم الدولي لوقف الاستهدافات، وإلى حثّ المجتمع الدولي على اعتبار هذه الأفعال انتهاكاً للقوانين الدولية.
العمل مع المنظمات الدولية: يجب على لبنان التعاون مع منظمات مثل اليونسكو للضغط على الجهات المعتدية لمنع تكرار هذه الهجمات، وإعادة إعمار ما تضرر منها.
تعزيز التوثيق الرقمي: إنّ توثيق المعالم التاريخية رقمياً يسهم في الحفاظ على نسخة من هذا التراث للأجيال المطلة في حال تعرضه للضرر، وهذا ما يحافظ على جزء من الذاكرة الوطنية حتى في الظروف الصعبة.
في الختام، يمثّل القصف الإسرائيلي على المواقع الأثرية في لبنان اعتداءً على الثقافة والتاريخ، ويؤدّي إلى تدمير ذاكرة الشعب اللبناني وتراثه الذي يمتد إلى آلاف السنين. إنّ الحفاظ على هذه المعالم وإعادتها إلى رونقها يمثّلان تحدّياً وطنياً يجب أن يُواجه بتكاتف الجهود المحلية والدولية للحفاظ على إرث الأجداد ونقله إلى الأجيال المقبلة.