ما يُخفى من الخسائر الاقتصادية للحرب أكبر. خسائر لا نراها متجسدة في المنازل المهدّمة والشركات المشلّعة كلّما فتحنا التلفاز، ولا نسمع عنها في المذياع، ولا نتابعها في صخب الحوارات. تمرّ هذه الخسائر بشكل عرضي تحت مسمّى "غير المباشرة". ومنها، انخفاض الطلب، وتعطّل بعض سلاسل التوريد، وارتفاع كلفة النقل. وهي العوامل التي تؤدّي مجتمعة إلى تراجع أعمال ما تبقّى من مؤسسات صامدة، على غرار شركات الشحن الجوي السريع (Express Air Cargo).

خلال العقود الثلاثة المنصرمة شهد قطاع الشحن الجوي السريع في لبنان فورة كبيرة. وعلى الرّغم من صغر حجم البلد، استطاع أن يستقطب أهم الأسماء العالمية العاملة في هذا المجال. فأقامت شراكات واسعة النطاق مع شركات محلّية عن طريق "الفرانشايز" بشكل أساسي، والترخيص. وبعضها فضّل العمل عن طريق تملّك مكاتب تمثيلية مباشرةً. كذلك حفّز النشاط المطرد في هذا القطاع دخول شركات لبنانية تقدّم خدمة الشحن الجوي فضلاً عن خدمات أخرى، ولو أنّ حصّتها من السوق بقيت قليلة مقارنةً بتلك الأجنبية. وكما يدلّ اسمها، فإنّ هذه الشركات عبارة عن وسيط، تنقل البضائع بين الشركات (B2B)، وبينها وبين المستهلكين الفرديين (B2C) بواسطة شركة الطيران المحلّية وشركات الطيران التجارية الأجنبية على نحو أساسي. وقلّة منها تسيّر طائرات شحن، خاصةً إلى بيروت بشكل منتظم، بسبب محدودية البضائع التي تنقل من لبنان وإليه، مقارنة بوجهات أخرى. فضلاً عن كون أكثرية شركات الشحن لا تملك طائراتها الخاصة بالأعداد الكافية، وكثيراً ما تكون أحجامها كبيرة جداً، وهذا ما يرفع كلفتها التشغيلية. وعليه، كلّما كانت حركة الطيران التجاري في البلد نشطة ومتنوعة الوجهات والمقاصد، كانت قدرة شركات الشحن على العمل أكبر. وهذا ما تعطّل أخيراً في لبنان بنسبة كبيرة بسبب الحرب.

مراحل تراجع الشحن الجوي

التراجع الكبير في أعداد شركات الطيران التجاري العاملة في لبنان منذ بدء التصعيد العسكري في نهاية تموز الماضي، وتقليص عدد رحلاتها إلى الحدود الدنيا، "خفّض الشحن الجوي بنسبة 70 في المئة"، بحسب رئيس جمعية النقل الجوي السريع في لبنان (AXAL) مراد عون. ومع تفاقم الصراع الحربي في الثالث العشرين من أيلول الماضي، علّقت جميع الشركات الأجنبية رحلاتها من لبنان وإليه، ولم يتبقّ إلا شركة "طيران الشرق الأوسط" (MEA). فواجهت شركات الشحن الجوي مشكلتين:

- الأولى تقنية، تتعلّق بضيق هيكل طائرات "الميدل إيست"، وخروجها من لبنان بعد 23 أيلول ملأى بالركاب الخارجين من لبنان بسبب الحرب إلى أمد غير محدود، وهم يحملون الكثير من الحقائب. وهذا لا يفسح مجالاً كبيراً لبضائع في أماكن التخزين للبضائع الصادرة.

- الثانية لوجستية، ترتبط بمحدودية الوجهات التي تقصدها "الميدل ايست" وهي تتركّز عامة في مقاصد محددة بأوروبا والدول العربية، في حين أنّ الكثير من البضائع المنقولة جواً تصل من شرق آسيا، وتحديداً من الصين، وغيرها من الأماكن الأوروبية غير المقصودة.

في الفترة الممتدة من 23 أيلول إلى نهاية الشهر الجاري، استفادت شركات الشحن الجوي من زيادة عدد رحلات الميدل ايست، وعودتها شبه فارغة. وهذا ما أتاح مساحات أوسع للبضائع المستوردة. إلّا أنّ هذا الواقع سيتغير بشكل جذري مع مطلع الشهر المقبل، إذ أفاد رئيس نقابة "أصحاب مكاتب السياحة والسفر"، جان عبود بأنّ "حجوزات السفر لمغادرة لبنان عبر مطار رفيق الحريري الدولي تراجعت خلال الـ 10 أيام الأخيرة (من 13 إلى 23 تشرين الأول) نحو 20 و30 في المئة عن الفترة السابقة، وأنّه "مع بداية تشرين الثاني سنشهد تراجعاً في عدد الرحلات. فمثلاً، سيصبح هناك رحلة واحدة لشركة الميدل إيست إلى فرنسا أو أفريقيا بدلاً من رحلتين في اليوم. ولفت عبود إلى أنّ "ملاءة الطائرة لا تتعدّى 10 في المئة في طريق العودة إلى لبنان". هذه التطورات، وإن كانت "لا تقطع نفس الشحن الجوي كلياً، ستنعكس ارتفاعاً كبيراً في الأسعار"، بحسب عبود. "إذ ارتفع سعر نقل الكيلوغرام من 1.5 دولار إلى ما بين 6 و7 دولارات. وهي كلفة باهظة جداً على التجار المستوردين، والزبائن. وتجعل من خيار الاستيراد جواً محصوراً بالأمور الأساسية والطارئة، مثل الأدوية وبعض المواد الحيوية، وقطع الغيار الملحّة التي يضطر المستوردون إلى الحصول عليها بسرعة قصوى. في حين توقّف بشكل كلّي استيراد بقية المواد غير الأساسية من ألبسة وأكسسوارات وعطور وسواها من السلع الكمالية.

الطيران العارض حلاً ممكناً برغم الكلفة

مع العلم أن محاولة استعانة شركات الشحن الجوي بشركات "الطيران العارض" (Charter)، وهي شركات طيران تقوم بعمل رحلات وترتيبها بعيداً عن الجداول الاعتيادية مع عميلٍ خاص، واجهت مشكلة عدم استعداد شركات التأمين لتغطية المخاطر. وإذا وافقت، فالكلفة الكبيرة تطيح الجدوى الاقتصادية لاستعمال هذا الخيار. وعليه، تعطّل الشحن الجوي، وانتقل بعض التجار ممن يستوردون بضائع لا تفسد بمرور الوقت الطويل، إلى الشحن البحري.

اختفت عن الخريطة التجارية 3 مناطق أساسية غنية بالمؤسسات التجارية ومرتفعة الكثافة السكانية

تراجع الطلب المحلي 

بالإضافة إلى تعطّل سلاسل التوريد، تواجه شركات الشحن الخارجي بشقّيه الجوي والبحري، تراجع الطلب الداخلي. إذ تشير التوقّعات إلى إقفال نحو 50 ألف مؤسسة وشركة بشكل دائم أو مرحلي، تمثّل نحو 60 في المئة من مجمل الشركات المسجّلة في لبنان. أما في ما يتعلّق بالنقل الداخلي، وهو الخدمة التي تقدّمها أيضاً شركات الشحن، خصوصاً مع ما رافق التجارة الألكترونية المزدهرة من حاجة ملحّة إلى خدمات التوصيل، فقد "تراجعت بنسبة 60 في المئة أيضاً"، يقول عون. إذ اختفت عن الخريطة التجارية 3 مناطق أساسية غنية بالمؤسسات التجارية ومرتفعة الكثافة السكانية، وهي: جنوب لبنان، والبقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت". وتنحصر المؤسسات التي لا تزال تعمل بوتيرة متراجعة في جبل لبنان وشماله. وهي المناطق التي لا تكوّن أكثر من 40 في المئة من حجم الأعمال.

خلافاً لحرب تموز من العام 2006، التي اقتصرت مدّتها على 34 يوماً، لم تفرض إسرائيل، بعدُ، حصاراً اقتصادياً على لبنان. وبقدر ما يشكّل هذا الأمر من متنفس للاقتصاد والمواطنين على السواء، فهو يثير خوف المتابعين من إبقاء لبنان يتنفس، "للتلذذ" بتعذيبه وقتله على نحو بطيء. وهذا ما قد ينعكس خروجاً لما تبقى من استثمارات، وتشريد الكثير من العمال والموظفين.