من سخرية الأقدار أن تؤدّي الحرب إلى تحرير المزيد من الودائع بالعملة الأجنبية. بغضّ النّظر عن قيمة المبالغ "المفكوك أسرها"، ونسبتها المتهاوية مقارنة بحجم الأموال المتبخّرة، ظلّت إمكانية زيادة كمّيتها أمراً شبه مستحيل حتى الأمس القريب. فقبل نحو عام، ومن على منبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، جزم حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري بعدم القدرة على توسعة التعميم 158 - الناجي الوحيد من حقبة الحاكم السابق رياض سلامة - قيد أنملة. وما إن بدأت أوزار الحرب تحطّ ثقلها على سعر الصرف، حتى أخذ المركزي "يوسّع" الاستفادة من التعاميم لضخ المزيد من الدولارات في السوق، توازياً مع فتح الإنفاق بالليرة الذي ظلّ مقيّداً فترة طويلة.
قبل أيام قليلة عدّل مصرف لبنان التعميم 166، ليصبح بإمكان جميع المودعين الذين حوّلوا ودائعهم من الليرة اللبنانية إلى العملات الأجنبية بعد 30 تشرين الأول 2019، الاستفادة من أحكام التعميم. وذلك عملاً بسياسة المصرف الرامية إلى توسعة مروحة المستفيدين من تعاميمه في مرحلة أولى. والتعميم 166 هو الذي حلّ مكان الـ 151 المنتهية صلاحيته مطلع العام 2024، والذي طلب المركزي بموجبه من المصارف استثنائياً أن تقوم بما يلزم لتأمين تسديد تدريجي للودائع بالعملات الأجنبية من غير "الأموال النقدية" المكوّنة قبل 30 حزيران 2023، والتي لا يستفيد أصحابها من التعميم 158، ضمن شروط محدّدة. وهذا يعني بـ "العربي" أنّ كلّ الودائع المكوّنة بالدولار بعد تشرين الأول 2019، من خلال تحويل الودائع بالليرة، والتحويلات من الحسابات المصرفية سواء كانت لأفراد أو شركات، والناتجة من وضع شيكات... تستفيد من سحب 150 دولاراً شهرياً. لكنّ المركزي اشترط مجموعة أمور للاستفادة من أحكام التعميم، منها:
- ألّا يكون العميل قد حوّل من الليرة إلى الدولار مبلغاً يوازي أو يزيد على 300 ألف دولار (450 مليون ليرة).
- الأشخاص الذين تظهر حساباتهم حركة شيكات مصرفية تدلّ على عملية تجارة شيكات. وهو الشرط الذي فتح المجال واسعاً أمام المصارف للاستنساب لدى تطبيق القرار، إذ ليس ثمة معيار موحّد وواضح لتعريف تجارة الشيكات.
تداعيات توسيع الاستفادة من التعاميم
وعليه، أتى التعديل على التعميم 166 ليقول إنّه مهما كان المبلغ الذي حُوّل من الليرة إلى الدولار بعد 31 تشرين الأول 2019، يمكن صاحبه الاستفادة من 150 دولاراً. الأمر الذي من شأنه زيادة ضخّ الدولارات في السوق.
بالإضافة إلى توسعة الاستفادة من التعميم 166 أقرّ مصرف لبنان تعديل التعميم الرقم 147 المتعلّق بالشيكات الصادرة عن المصارف، ففرض على المصارف قبول الشيكات الصادرة عنها وغير المستعملة، إلى جميع الحسابات. وهذا ما يفسح في المجال للمودعين بإعادة قيد أموالهم في حساباتهم. وبالتالي الاستفادة من تعاميم مصىرف لبنان التي تنطبق على الحساب. وكانت مصارف عدة قد امتنعت عن قبول الشيكات المصرفية، خصوصاً تلك الناتجة من نقل حساب من مصرف إلى آخر، وذلك كي لا تزيد من التزاماتها. ومع هذا الإجراء، أصبح لزاماً عليها قبول الشيكات، وإتاحة المجال لعملائها بغية الاستفادة من التعميم 158 أو من التعميم 166. وهذا أيضاً يزيد من ضخّ الدولارات في السوق.
هذان الإجراءان كان قد سبقهما طلب المركزي من المصارف في 25 أيلول المنصرم التسديد، استثنائياً ولمرة واحدة، مبلغ يساوي ثلاث دفعات شهرية في مطلع تشرين الأول، للمستفيدين كافّة، من التعميمين الأساسيين 158 و166. وتعهد الاستمرار في تسديد رواتب القطاع العام مع الزيادات عليها بالدولار. وهذا ما أدّى إلى ضخّ مبلغ 320 مليون دولار في السوق خلال 24 ساعة، بدء الشهر الجاري، توزّعت ما بين رواتب الموظفين ودفعات ثلاث للمودعين المستفيدين من التعميمين 158 و 166.
زيادة الإنفاق بالليرة
لا يمكن فهم التدابير الاستثنائية التي يتخذها المركزي بمعزل عن السياسة المالية. فبالتوازي مع توسعة مصرف لبنان الاستفادة من التعاميم كانت وزارة المال تصرف المساعدة المالية لموظفي القطاع العام والعسكريين الفعليين والمتقاعدين. إذ أصدر وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل قراراً قضى بصرف تعويض مؤقّت ومساعدة مالية لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين الذين يستفيدون من راتب تقاعدي بناءً على المرسوم الرقم 14033 تاريخ 30/9/2024. وبحسب القرار المذكور حُدّدت قيمة صرف التعويضات وتاريخه، ومنها صرف المساعدة المالية عن أيلول، 10 ملايين ليرة والتعويض المستحقّ عن تشرين الأول بمقدار الضعفين، وعن تشرين الثاني بمقدار 3 أضعاف (فقط للمتقاعدين وللأسلاك العسكرية) وذلك في 1-11-2024. أمّا المساعدة المالية عن كانون الأول، 10 ملايين ليرة والتعويض المستحقّ عن كانون الاول 4 أضعاف، وعن تشرين الثاني 3 أضعاف (فقط للمستفيدين في الإدارات العامة) فيتم سدادها في تاريخ 1-12-2024. كذلك أقرّت وزارة المال المزيد من الاعتمادات للهيئة العليا للاغاثة وللبلديات والقطاعين الصحي والاستتشفائي وللوزارات والمجالس المعنية بمساعدة النازحين. ومن شأن هذه القرارات رفع الإنفاق بالليرة وعودة الضغط على سعر الصرف.
طمأن حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري إلى الاستقرار النقدي.
سعر الصرف يهتز ولا يقع
وبالفعل كان سعر الصرف قد بدأ منذ نهاية أيلول التحرّك صعوداً عن السعر المحرر بـ 89500 ليرة. إذ بيّن التقرير النصف الشهري لبنك عودة "ارتفاع سعر الصرف إلى ما بين 89900 و90100 خلال الأسبوع الأول من تشرين الأول مقابل 89600-89800 للأسبوع الذي سبقه". وجاء ذلك "وسط مخاوف من أن يؤدي تصعيد الصراع إلى إضعاف احتمالات تعافي الاقتصاد اللبناني الهشّ بشكل كبير، ووضع ضغوط على الظروف النقدية واحتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي"، بحسب التقرير.
الحاكم مطمئن
على الرّغم من هذه المعطيات السوداوية طمأن حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري إلى الاستقرار النقدي، والسعي إلى استمرار ضبط سعر الصرف. ونقل زوار عن منصوري قوله "إنّ المصرف المركزي يتّخذ كلّ التدابير التي من شأنها توفير إمكان استمرار عمل مصرف لبنان، برغم الظروف الاستثنائية من جهة، والسيطرة على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من جهة ثانية".ويعتمد منصوري على مراكمة المركزي حوالى ملياري دولار من احتياطيات العملة الصعبة، منذ آب 2023. وهذا ما يمكّنه من الاستمرار في ضخّ رواتب موظّفي الدولة بالدولار ودفعات التعاميم.
إنّ الإجراءات النقدية المتّخذة، على أهمّيتها، تشبه من يعالج مريض سرطان بعدد محدود من حبوب المسكّنات. والمشكلة لا تتعلّق بعودة الألم مع انتهاء مفعول الدواء فحسب، إنّما بنفاده سريعاً. فالأزمة التي استنزفت عشرات مليارات الدولارات منذ بدايتها بمحاولات تثبيت سعر الصرف الفاشلة، لن يكفيها مليارا دولار. وإذا صحّت الأخبار عن إطالة الحرب وازدياد شراستها، فإنّ تدابير التوازن بين الليرة والدولار قد تؤخّر الانهيار، لكنّها لن تحول دون الانفجار الكبير في وقت قد لا يكون ليس بعيداً.