ما كنّا نسمعه في الصغر عن أطماع إسرائيل بمصادر مياه جنوب لبنان، يتحوّل إلى واقع ملموس مع كلّ حرب. وإذا كان من الصعب عليها سرقة المياه عبر تحويلها إلى المستوطنات الشمالية، فهي لا تألو جهداً لمنع لبنان الاستفادة منها عبر تحويلها من نعمة إلى نقمة.

قبل أيام، أعلنت "​المصلحة الوطنية لنهر الليطاني​"، أنّه "في إطار سياسة الأرض المحروقة الّتي يعتمدها العدو الإسرائيلي في منطقة الجنوب اللّبناني، نفّذت الطّائرات المعادية غارةً استهدفت فيها النّاقل الرّئيسي لمياه نهر اللّيطاني باتجاه مشروع ري القاسمية في منطقة ارزي، الّذي يجرّ أكثر من 260 ألف متر مكعّب من المياه في اليوم، لريّ حوالى 6000 هكتار من الأراضي الزّراعيّة على طول السّاحل الجنوبي". وأضافت "المصلحة" في بيانها "بهذه الجريمة الّتي تمثّل انتهاكًا للقانون الدّولي الإنساني، أصبح نهر اللّيطاني خارج الاستثمار في منطقة الجنوب اللّبناني، وهذا ما يعيد التحدّيات المتعلّقة بأطماع العدو في ثروة لبنان المائيّة"، موضحةً "أنّها اتخذت التّدابير الرّامية إلى تهريب المياه موقّتًا لمنع إغراق الأراضي الزّراعيّة والطّرق، وكذلك ستتّخذ التّدابير اللّازمة لإعادة تشغيل المشروع لتغذية الأراضي الزّراعيّة".

أهمّية نهر القاسمية

ولكي نفهم خلفية هذا الاستهداف نرسم خريطة توضح أهمّية نهر القاسمية لاقتصاد المدن والقرى الجنوبية. يتفرّع نهر القاسمية من نهر الليطاني الذي يتدرّج نزولاً من أودية طيرفلسية والزرارية وشحور وصولاً إلى القاسمية شمال مدينة صور، التي تتمتع بطبيعة سهلية منبسطة إلى حدّ ما. ويجري النهر المتفرّع من الليطاني مسافة 8 كيلومترات، مكوّناً الحياة ومشكّلاً مورد رزق أساسياً لآلاف العائلات في قرى وبلدات جنوبية، قبل أن يصبّ في البحر الأبيض المتوسط. ويعتمد سكان البلدات الجنوبية التي يمر بها نهر القاسمية في معيشتهم على السياحة والزراعة والسياحة. إذ تترامى في أراضيها بساتين الموز والحمضيات ومختلف المزروعات المروية. كذلك تنتشر على ضفاف النهر المنتزهات والمطاعم والمقاهي التي تشكل مورد رزق أساسياً وفرصة لتوظيف المئات من الشباب، خصوصاً في موسمي الربيع والصيف.

معلوم أنّ لإسرائيل أطماعاً قديمة بمياه الليطاني وثروة لبنان المائية، تعود إلى زمن السلطنة العثمانية وتأسيس الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني.

استهداف الاقتصاد جنوباً من خلال قطع المياه

استهداف إسرائيل للعبارات وقنوات تحويل المياه إلى المناطق الزراعية والطرق المؤدّية إلى محطّات الضخ الرئيسية، "قطع إمدادات المياه عن الأراضي الزراعية، مهدّداً معيشة الجنوبيين بشكل خاص والأمن الغذائي للبنان المحاصر بشكل عام"، بحسب غسان بيضون المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة، والخبير في المعهد اللبناني لدراسات السوق. "فنهر الليطاني وينابيع المياه التي ترفده، تعتبر من أهمّ مصادر المياه في جنوب لبنان. وهي تلعب دوراً اقتصادياً حيوياً ليس فقط من حيث تعزيز صمود الجنوبيين في أرضهم وقراهم فحسب، بل كذلك من حيث تكبير حجم الاقتصاد جنوباً وزيادة حصته من الناتج العام الإجمالي. وذلك من خلال مشاريع الريّ التي جرى تنفيذها، أو تلك التي هي في طور الاستكمال في إطار مشروع منسوب الـ 800 متر المفترض أن ينتهي إلى تأمين مياه الشفة والري لعدد مهمّ من القرى الجنوبية والبقاعية. كذلك يساهم هذا المشروع في ازدهار الزراعة وتوسعة مساحاتها على نحو يعزّز الموارد الاقتصاديةُ التي تتعدّى منافعها النطاق المحلّي لتشمل الاقتصاد اللبناني كله. ويؤدّي إلى تأمين الاكتفاء وتعزيز الأمن الغذائي للبنان، من خلال توفير كميات من الإنتاج الزراعي للاستهلاك الداخلي وللتصدير أيضاً على نحو يدعم ميزان المدفوعات".

الأطماع بمياه لبنان قديمة

ومعلوم أنّ لإسرائيل أطماعاً قديمة بمياه الليطاني وثروة لبنان المائية، تعود إلى زمن السلطنة العثمانية وتأسيس الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني. والعين كانت دائماً على نهر الليطاني الذي "لا تقتصر أهمّيته على البعديْن الجغرافي والعسكري اللذين لطالما أقلقا الكيان ودعَوَاه إلى إطلاق اِسم "عملية الليطاني" على اجتياح 1978"، بحسب بيضون، "إنّما أيضاً لتميز الليطاني بأنّه نهر وطني ينبع من لبنان ويصبّ ضمن حدوده، ولا تستطيع إسرائيل الدخول إليه بالاستناد إلى تعريف القانون الدولي للنهر الدولي الذي يشمل بين منبعه ومصبّه بضع دول". وعليه، تحاول إسرائيل منذ عقود "إيجاد سبيل يصطنع لها شراكة في مياهه من خلال السعي إلى استيلاد حقّ مزعوم يبرّر استفادة "شعوب المنطقة" من هذه المياه، أو من خلال محاولة تطوير مفهوم الحوض المائي الدولي ليشمل حوضُ الليطاني الأراضي المحتلة". يضيف بيضون. ويربط المؤرخ د. عصام خليفة بين حروب إسرائيل على لبنان وسعيها إلى تهجير أكبر عدد ممكن من السكان، لتبرير المطالبة بحصة من مياه لبنان أو وضع يدها على مياه الليطاني.

تاريخ طويل من الاعتداءات

الاعتداء على محوّل الليطاني – القاسمية ليس الاعتداء الأول على مصادر المياه لجنوب لبنان، والأكيد أنّه لن يكون الأخير. فمنذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب في 8 تشرين الاول 2023 نفّذ الطيران الإسرائيلي غارات على معظم المشاريع المائية الرئيسة في المنطقة الحدودية، وكان أكبرها تدمير مشروع محطة مياه نبع الوزاني في 6 شباط 2024، وهذا ما أدّى إلى توقّف ضخّ المياه عن حوالى 70 قرية في القطاع الشرقي والقطاع الأوسط والقطاع الغربي من المنطقة الحدودية. وقد تلا هذا الاعتداء فرض الطيران المعادي طوقاً نارياً على المحطة والطرق المؤدّية إليها، من أجل منع إصلاح الأعطال وإعادة تأمين المياه.

يتضح ممّا سبق، هشاشة قطاع المياه في لبنان. إذ يكفي أن تُقصف أو حتّى تتعطل محطات الضخ والمحولات الأساسية لتُقطع المياه عن معظم القرى. وهذا الأمر يعود إلى إدارة قطاع المياه بشكل مركزي. ففي العام 2000 صدر القانون 221 الذي دمج مصالح المياه الـ 25 اللامركزية بأربع مؤسسات مركزية هي: جبل لبنان وبيروت، لبنان الشمالي، لبنان الجنوبي والبقاع. ومنذ ذلك الحين تسبّب الدمج بمشكلات بيروقراطية لا تعدّ ولا تحصى. ووضع تسهيل الأمور في يد موظفين يتصرفون أحياناً كثيرة بمزاجية. ويمكن عطلاً واحداً بسيطاً في أيّ منطقة بعيدة عن مركز الإدارة أن يتسبّب بمشكلة كبيرة في انتظار حلّه بالطريقة البيروقراطية. هذا عدا عدم عدالة توزيع المشاريع وعدم معرفة كيفية صرف الأموال والهبات والمساعدات وإرسال أموال الجباية إلى المؤسسات المركزية لتحديد كيفية صرفها. وعليه، فإنّ حلّ مشكلة المياه في لبنان يتطلّب أكثر من أيّ وقت مضى التفكير من خارج الصندوق، وتفكيك المركزيات وترك حرية تأمين مصادر المياه وإدارتها لكلّ منطقة منفردة من خلال الشراكة بين البلديات والقطاع الخاص. ويمكن حصول هذا التعاون باستثمار مصادر المياه من الأنهر والآبار ومصادر التجميع التقليدية، أو بتحلية مياه البحر وطرائق أخرى إذا كان للمشروع جدوى اقتصادية. وهذه الطريقة لا تضمن تأمين المياه المتوفرة بكثرة بشكل دائم ومن دون انقطاع وبكلفة أدنى فحسب، إنّما كذلك تخفف مخاطر الاعتداءات التي تتسبب بانقطاع المياه عن كلّ المناطق في حال استهداف محطة مركزية.