في 7 آذار 2020 أعلن لبنان تخلّفه عن سداد ديونه. منذ ذلك الحين، بدأت قيمة سندات الدين بالعملة الأجنبية "اليوروبوندز" تنخفض تدريجياً. ومع الإخلال بوعد إعادة هيكلة الديون، وفقدان المستثمرين أيّ أمل بالإصلاح الجدّي، وتعمّد المصارف التجارية التخلّص ممّا تحمله من سندات، انهارت قيمة "اليوروبوندز" حتّى وصلت إلى نحو 5 سنتات للدولار في نهاية العام 2021. وعلى الرغم من فقدان الأمل بقدرة الدولة اللبنانية على الإيفاء بالتزاماتها، واستمرار التصنيف الائتماني السيىء، وغرق لبنان في حرب لا تبقي ولا تذر، عادت قيمة الأسهم إلى الارتفاع مع بداية العام 2024، محقّقةً الأداء الأفضل على مستوى سوق السندات في العالم.
استمرّت قيمة سندات الدين بالعملة الأجنبية في مسارها الارتفاعي الذي أخذته منذ بداية الحرب، محقّقةً 8.647 سنتاً للدولار مطلع الشهر الجاري. وكانت سوق السندات "قد شهدت قفزة في الأسعار من 6.500 سنت للدولار الواحد في نهاية أيلول إلى 7.875 سنتاً"، بحسب ما يظهر التقرير الاقتصادي لبنك عودة، "أي أنّها عادت إلى المستوى نفسه الذي كانت عليه عشية اندلاع الصراع في 7 تشرين الأول 2023، وذلك على الرغم من تصاعد المخاطر الجيوسياسية والتخوّف من نشوب حرب إقليمية شاملة". ويُعزى هذا الارتفاع في أسعار سندات اليوروبوندز اللبنانية، بحسب التقرير، إلى "الإقبال على الشراء من قبل المتعاملين الأجانب".
يتعيّن على الدولة اللبنانية التحلّي، ولو مرّة، بالمسؤولية وبدء التفاوض الجدّي
أسباب ارتفاع قيمة السندات
بالعودة إلى قاعدة السوق الذهبية في الاقتصاديات الحرّة، يؤدّي تفوّق الطلب على العرض إلى ارتفاع الأسعار، والعكس صحيح. لكن ما الذي يدفع المستثمرين إلى شراء السندات السيادية لدولة متعثرة، غارقة في حرب ضروس مجهولة النهاية، ومتراجع ناتجها حوالى 60 في المئة؟
تتحكم 3 عوامل أساسية في زيادة الطلب على سندات "اليوروبوندز" اللبنانية:
العامل الأول، سياسي محض. وقد أشار المصرف العالمي HSBC في تقرير حديث له محوره لبنان، إلى أنّ "الطفرة في النشاط بسوق سندات "اليوروبوندز" اللبنانية في الأيام الماضية مردّها إلى تجدّد الآمال بحدوث تغيير في المشهد العام يؤدي إلى إحداث خرق في جدار الأزمة السياسية، وإفساح الطريق أمام الإصلاحات. كما يمكن أن يستتبع تدفّقاً في الأموال من الدول المانحة عقب إبرام اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي وإعادة هيكلة الدين".
العامل الثاني، تقني، إذ "كثيراً ما تتحسّن قيمة السندات كلّما اقترب أجل استحقاقها"، يقول رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية والخبير السابق في صندوق النقد الدولي د. منير راشد. "لأنّ عدم التوصّل إلى تفاهم مع الدولة المصدّرة للسندات على إعادة الهيكلة، سيدفع المستثمرين أو حاملي السندات إلى رفع دعاوى قضائية على الدولة اللبنانية في محاكم نيويورك لحفظ حقّهم بالفوائد وبأصل الدين". ومعروف أنّ حقّ حملة السندات بالفوائد يسقط بعد 5 سنوات من التخلّف عن السداد، وبعد 10 سنوات للمطالبة بأصل الدين، في حال عدم مقاضاتهم الجهة المصدّرة قانونياً. وهذه المهلة تنتهي في آذار 2025. و"من الواضح أنّ الدعاوى ستكون لمصلحة الدائنين"، بحسب راشد. و"نتيجتها الحكم بإلزام الدولة اللبنانية تسديد 50 إلى 70 في المئة من قيمة الدين. وهذا يعني تحصيل الدائنين ما بين 50 و 70 سنتاً على الدولار. وهذه النسبة كبيرة جداً تفوق المبالغ التي يمكن الدائنين الحصول عليها في حال إعادة الهيكلة. وما يزيد من فرص ربح الدعاوى، وتحصيل المبالغ بسرعة وفعالية، هو وجود الجزء الأكبر من السندات بيد مؤسسات استثمارية عملاقة، وصناديق سيادية، وشركات تأمين عالمية، ومن أبرزها: "بلاك روك"، و"اشمور" و"فيدلتي" و"جي بي مورغان"... وربح هذه المؤسسات للدعاوى ينسحب حكماً على كلّ حاملي السندات. وعليه، من الطبيعي أن نشهد تحسّناً بقيمة السندات وصولاً حتّى موعد الاستحقاق النهائي في آذار 2025"، يضيف راشد. "خصوصاً أنّ الدّولة اللبنانية تملك أصولاً ذات قيمة كبيرة يمكن الدائنين الاستيلاء عليها، وأهمّها الذهب الموجود في مصرف لبنان، والذي تقدّر قيمته بنحو 24 مليار دولار، وشركة الطيران، وأصول وأراض وعقارات. ومن غير الصحيح أنّ أصول المصرف المركزي واحتياطياته السائلة ستبقى محيّدة عن التعويضات، كونه مستقلاً عن الدولة، وأن هناك قانوناً يمنع المسّ بالذهب". وبرأي راشد كان من الأجدى تسييل الذهب وإعادة جزء من حقوق المودعين قبل أن يضيع بشكل كلّي.
العامل الثالث، المضاربة. "فارتفاع الأسعار بنسبة قاربت 28 في المئة، بالتزامن مع اعتزام إسرائيل الهجوم برّاً يعني أنّ هناك حركة ناشطة في سوق البيع والشراء العالمية"، بحسب الخبير الاقتصادي نيقولا شيخاني. "وربما يراهن المشترون على تحسّن الأوضاع نتيجة إلزام لبنان القيام بالإصلاحات وضبطه من الجهات الدولية من خارج إرادته". ومن غير المستبعد، بحسب شيخاني، أن تكون "الصناديق النسور (vulture fund) هي التي تطلب السندات لزيادة حصّتها. ومن يعرض هو المصارف التجارية، وبعض المستثمرين الأفراد". ومعلوم أنّ أصل الدين بقيمة 30 مليار دولار يتوزّع، بحسب آخر المعلومات، على الشكل التالي: 5 مليارات دولار بيد المصرف المركزي اللبناني، وحوالى 2.9 مليار دولار بيد المصارف التجارية اللبنانية، وبين 17 و20 مليار دولار بيد صناديق وشركات استثمار عالمية. والباقي المقدّر بمليارين بيد أفراد ومستثمرين متفرّقين. ومن غير المستبعد، بحسب شيخاني، أن "تستمر المصارف في بيع حصتها لزيادة السيولة، كون حصّة المركزي ما زالت كما هي مثلما يظهر في موازنته". وبرأيه "من المهم أن يتدخل كلّ من المصرف المركزي وهيئة الأسواق المالية، ليس لمنع البيع، إنّما، أقلّه، لمعرفة ما يحصل في السوق، وإن كان هناك من يزوّد الجهات الشارية معلومات داخلية. خصوصاً أنّ هذه السندات سيادية، وبيعها في ظلّ كلّ هذه الظروف يؤثّر سلباً على لبنان، ومن شأن أيّ عملية إعادة هيكلة أن تعيد للدائنين بين 20 و25 سنتاً للدولار، بحسب التجارب الدولية السابقة. وهو ما سيحمل خطراً داهماً على إعادة الودائع كون المطالبات الدولية تشدّد على إرجاع السندات أولاً".
قياساً على معدلات ونسب الإرجاع المقدرة بين 20 و25 في المئة في حالة إعادة الهيكلة، وبين 50 و70 في المئة في حال إحالة القضية على المحاكم، يتعيّن على الدولة اللبنانية التحلّي، ولو مرّة، بالمسؤولية وبدء التفاوض الجدّي. خصوصاً أنّ الأموال التي ستدفع إلى الدائنين ستحسم من حقوق المودعين.