سريعاً عادت المساعدات المالية والعينية للتدفّق إلى بيروت عقب توسعة إسرائيل الحرب على لبنان في الثالث والعشرين من أيلول المنصرم. الهِبات، على أهميتها، لم ترقَ بعدُ إلى مستوى الحاجات، وقد لا ترقى إطلاقاً. فلبنان الرسمي أخرج نفسه منذ زمن بعيد من دائرة الاهتمامين العربي والعالمي. ولم ينجح رغم المآسي التي حلّت به في استعطاف الأقربين قبل الأبعدين، الذين "تعبت ألسنتهم" وهم يردّدون "الإصلاحات أولاً". وبانتظار "المعجزة"، عُلّقت قروض "سيدر"، وجُمّدت ديون صندوق النقد، وأُلغي الدعم الطاقوي من مصر والأردن، وشحّت المساعدات في زمن كورونا وبعد انفجار المرفأ، وقلّصت الدول التمويل للمؤسسات الأممية، وصولاً إلى هزال التقديمات في زمن الحرب قياساً إلى الحجم الهائل للمشكلات.

الأزمات العالمية ترخي بثقلها على المنظمات الدولية

بعيداً عن جلد الذات، ربما نستحقه، فإنّ لتراجع المساعدات أسباباً دولية لا تتعلّق بموقف لبنان السياسي وعدم تحقيقه الإصلاحات الاقتصادية المرجوّة، وقطعه دابر الفساد المستشري في مختلف بنيانه. على صعيد دولي، تستنزف الحرب الروسية الأوكرانية الدعم الدولي، فهي الأكثر أهمّية لأوروبا وأميركا على السواء من مختلف الأزمات المفتوحة في العالم. وقد وصل حجم الدعم الأميركي لأوكرانيا منذ بداية الحرب إلى 46.6 مليار دولار، منها 30.3 مليار مساعدات إنسانية واقتصادية، بحسب تقرير منشور على شبكة تقرير شبكة "بي بي إس" الأميركية. في حين بلغت قيمة المساعدات الأوروبية 50 مليار يورو، 17 ملياراً منها هبات. أمّا على صعيد العالم العربي فتتكاثر الأزمات الإنسانية، ولعلّ أشدّها في السودان، حيث تسبّبت الحرب المستمرّة منذ حوالى عام ونصف العام بنزوح نحو 11 مليون شخص داخلياً والتهديد بمجاعة قاسية. وعلى صعيد الإقليم، فقد أدّت حرب إسرائيل على غزّة، ولبنان، واليمن، وسوريا إلى تشريد أكثر من 5 ملايين، تتطلّب مساعدتهم مبالغ مالية هائلة قد تكون أكبر من قدرة المنظمات الدولية في ظلّ كلّ هذه الظروف.

426 مليون دولار حاجة لبنان لثلاثة أشهر

في سياق متصل، طالب لبنان الرسمي بلسان رئيس حكومة تصريف الأعمال بمبلغ 426 مليون دولار، تُخصّص من أجل " تعبئة الموارد العاجلة للمدنيين المتضررين من الصراع المتصاعد والأزمة الإنسانية الناتجة منه". وقد أتى هذا النداء العاجل الذي أطلق من السراي بحضور وكالات الأمم المتحدة نتيجة "تقدير أولي للحاجات وضعته الأمم المتحدة مع مكتب رئاسة الحكومة، لمدة ثلاثة أشهر فقط"، يقول المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية زياد عبد الصمد. "وقد تلا الإعلان عن الحاجات، المزيد من عمليات النزوح التي لم تكن ملحوظة في التقرير". وسيخصّص المبلغ لمساعدة نحو مليون متضرّر من الصراع من خلال معالجة الحاجات العاجلة في مجالات الغذاء والمساعدات الأساسية والمأوى والرعاية الصحية والمياه والخدمات البلدية. وستُوجّه الأموال إلى الشركاء الإنسانيين المتعاونين كجزء من الاستجابة الطارئة التي تقودها الحكومة.

كذلك يطالب برنامج الغذاء العالمي (WFP) بمبلغ 105 ملايين دولار على نحو عاجل من أجل مواصلة تقديم الغذاء، وتوسعة شريحة المستفيدين من الوجبات لتشمل مليون نازح. ومما تبين من التقرير الأخير (الرقم 12) للجنة الطوارئ حول الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، أنّ مساعدات مختلف المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة تتركز في مراكز الإيواء التي وصل عددها إلى 890. وتحاول هذه المنظمات جاهدةً توسعة رقعة المستفيدين لتصل إلى المنازل. خصوصاً في ما يتعلّق بتقديم الوجبات الساخنة أو المبالغ النقدية لشراء الطعام.

المساعدات الواصلة بعد توسع العدوان

تلقّى لبنان منذ 29 أيلول حزمة من المساعدات العينية، تضمّنت المواد الغذائية والأدوية والمعدات الطبية وبعض التجهيزات اللوجستية تلبية لحاجات النازحين. وقد توزعت التقديمات، بحسب التقارير الحكومية، كالتالي:

فرنسا: مساعدات طبية.

الأردن: مساعدات إنسانية.

منظمة الصحة العالمية: مساعدات طبية.

بولندا: مساعدات طبية.

روسيا: مساعدات طبية.

باكستان: مساعدات إنسانية.

روسيا: مساعدات طبية.

سويسرا: مساعدات طبية إلى الصليب الأحمر.

الإمارات العربية المتحدة: مساعدات طبية وإنسانية على 4 دفعات وبقيمة 100 مليون دولار.

قبرص: مساعدات طبية.

إلمانيا: مساعدات إنسانية وطبية.

قطر: مساعدات إنسانية وطبية.

المساعدات أقلّ من الحاجات

هذه المساعدات التي تبدو كبيرة في الشكل لم تتجاوز 40 في المئة من مجمل الحاجات المقدّرة قيمتها بـ 426 مليون دولار، بحسب ما قاله مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي. ويعود هذا التراجع في تقديم المساعدات إلى جملة من الأسباب السياسية والاقتصادية برأي عبد الصمد. "فهناك دول تحجم من جهة عن تقديم المساعدة أو تبقي مساعداتها محدودة، لاعتبارها أنّ لبنان لا يملك قراره المستقل، وقد ورّط نفسه في حرب ليست لمصلحته العامة. وهناك من جهة أخرى فقدان للثقة بالحكومة اللبنانية من قبل مختلف الأطراف الإقليمية والدولية. فهذه السلطة لم تبادر إلى تنفيذ إصلاح جدي واحد منذ الانهيار في العام 2019، وتحديداً على مستوى الشفافية، برغم كلّ المطالبات الدولية. ولم تلتزم الاتفاق المبدئي الذي وقعته مع صندوق النقد الدولي لتنفيذ الإصلاحات الهيكلية في القطاعين العام والمصرفي". وبرغم أنّ المساعدات من أجل التنمية والإصلاح وإعادة الاعمار، تختلف بطبيعتها عن المساعدات الإنسانية، فإنّ "الأخيرة تأتي بصورة عينية وتوزع عن طريق الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية"، يضيف عبد الصمد. "وقلّة هي المساعدات التي تأتي إلى الوزارات باستثناء تلك التي تعمل بالشراكة مع المنظمات الدولية مثل وزارة الصحة العاملة مع منظمة الصحة العالمية. وهذا ما يدلّ على فقدان الثقة بلبنان الرسمي بشكل كبير".

يُذكر أنّ "الهبّة" الدولية لمساعدة لبنان عقب توسّع العدوان، لا تزال تفتقد أسماء دول لطالما شكّل دعمها المادي والمعنوي نقطة تحوّل أساسية. وفي جميع الأحوال، فإنّ المساعدات، مهما بلغت، "لن تسمن أو تغني عن جوع"، ما دامت الحرب مفتوحة والنزوح مستمراً. هذا إذا افترضنا عدم فرض حصار مطبق على لبنان، واقتصار الحاجات على النازحين. أمّا إذا تحقّق السيناريو الأسوأ فإنّ جميع المعادلات تنقلب رأساً على عقب، ويتحول لبنان بلداً منكوباً.