بالمنطق وبعلم الأرقام، كان يفترض بالاقتصاد اللبناني المنهار أساساً، ألّا يبقى منه شيء أمام آلة القتل والتهجير والدمار التي تفتك به منذ عام بالتمام والكمال. لكن خلافاً لكلّ التوقّعات أظهر مناعة استثنائية ضد الخسارة، ولا سيما على الصعيدين النقدي والمالي. ليس في الأمر معجزة أو سحر أسود، بل، ببساطة، لفقدانه عنصر "المرونة" في مواجهة الأحداث الفظيعة.

انطلاقاً من تعريف المرونة (elasticity) بأنّها "مدى استجابة متغيّر واحد أو أكثر للتغيّرات التي تحدث في متغيّر آخر أو أكثر"، كان يفترض بالحكومة إنفاق مئات آلاف المليارات لمواجهة تداعيات الحرب. ومنها: تأمين مخزون إستراتيجي من الوقود، والحبوب، والغذاء، وتوفير مآوٍ لائقة، وإعانة النازحين، وتسديد أتعاب القطاع الصحي كاملة، والتعويض على المتضررين جسدياً ونفسياً ومادياً، ودفع الإعانات المالية، ومساعدة المجتمعات المضيفة... وغيرها الكثير من المتطلّبات التي تخطر ولا تخطر على البال. وكان من شأن مثل هذا الإنفاق ممّا راكمته الدولة من عائدات تقدّر بحوالى 537 ألف مليار ليرة، ومن خلال العودة إلى الاستدانة بالدولار من "المركزي" والضغط عليه لطبع الليرات، أن يفاقم الطلب على الدولار ويؤدّي إلى انهيار سعر الصرف بلمح البصر من دون أن يكون هناك أيّ حدود للهوّة التي يمكن أن تبلغها الليرة مقابل الدولار. وغنيّ عن القول إنّ تدهور سعر الصرف من شأنه أن يحلّق بالتضخم، ويهوي بالقدرة الشرائية، ويبعد الاستثمارات، ويقوّض كلّ ركائز الاستقرار الهشّ الذي تحاول السلطة النقدية جاهدةً تثبيت دعائمه منذ مطلع العام 2023.

تبدو التكاليف الاقتصادية التي تتحمّلها إسرائيل جرّاء الحرب، والتي تصل إلى نحو 42 مليار دولار، تفوق بأشواط ما يتحمّله لبنان...

الاقتصاد اللبناني vs الاقتصاد الإسرائيلي خلال عام من الحرب

إستراتيجية "اعمل نفسك ميت" التي اتبعتها الدولة اللبنانية انعكست استقراراً بسعر الصرف، وارتفاعاً بالعائدات العامة، وزيادة في ميزان المدفوعات، وعجزاً بسيطاً لا يتجاوز 4 في المئة في موازنة 2025، وانخفاضاً بنسبة الدولرة، وصموداً في التصنيف الائتماني الدولي... وذلك خلافاً للنفقات الباهظة التي يتكبّدها كيان العدو الإسرائيلي على مختلف الأصعدة المالية والنقدية والاقتصادية، وتراجع تصنيفه الائتماني وارتفاع كلفة الاقتراض عليه بمئات ملايين الدولارات. وبمقارنة بسيطة بين الخسائر التي تحمّلها كلّ من لبنان وإسرائيل من الناحية الكمّية وليس من الناحية النسبية، طوال عام، يتبيّن التالي:

- خسر الشيكل الإسرائيلي 8 في المئة من قيمته، وهبط عقب اندلاع الحرب مباشرة إلى 4.07 شيكل مقابل الدولار، من 3.72 شيكل. قبل أن يعود إلى التحسن تدريجياً ويستقر حالياً عند 3.77 شيكل. في حين حافظت الليرة اللبنانية على استقرارها عند 89500 ليرة مقابل الدولار قبل اندلاع الحرب وبعده.

- قُدّرت النفقات المباشرة للحرب في إسرائيل بنحو 48 مليار دولار، في حين لم يتجاوز كلّ الانفاق على الوزارات والهيئات المعنية بشكل مباشر وغير مباشر بالحرب في لبنان 3.3 مليار دولار في العام 2024، حوالى 98 في المئة منها رواتب وأجور ونفقات تشغيلية.

- وصلت كلفة إيواء 100 ألف نازح من شمال إسرائيل إلى مليارين و340 مليوناً، في حين أقرّت الحكومة 150 مليار ليرة (1.6 مليون دولار) للهيئة العليا للإغاثة بهدف الاهتمام بمليون نازح.

- بلغ العجز في الموازنة العامّة لإسرائيل 3.24 مليار دولار في آب الفائت، وسط زيادة نفقات الحرب، في حين أقرّ لبنان موازنة متوازنة للعام 2024. واستطاعت بيروت إلى نهاية أيلول زيادة الإيرادات العامّة المجمعة في مصرف لبنان لتبلغ قرابة 6 مليارات دولار.

- من المتوقع أن يخسر الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل 17 مليار دولار، في حين يشير أسوأ السيناريوات إلى خسارة الناتج المحلي الإجمالي اللبناني 25 في المئة من قيمته، لينخفض بقيمة 5 مليارات دولار، من 20 إلى 15 ملياراً.

- انخفض التصنيف الائتماني لإسرائيل بين درجة ودرجتين بحسب وكالات التصنيف الائتماني الأكبر عالمياً "فيتش"، و"ستاندرد آند بورز"، و"موديز". في حين حافظ الاقتصاد اللبناني على تصنيفه المتدهور RD، أو ما يعني التخلّف المقيّد.

- ضخّت إسرائيل 30 مليار دولار من احتياطيات العملة الأجنبية لديها للمحافظة على ثبات سعر صرف العملة. في المقابل، زاد مصرف لبنان المركزي احتياطه من النقد الأجنبي بقيمة ملياري دولار منذ مطلع آب 2023، ليبلغ مجمل الاحتياطي 10 مليارات و850 مليون دولار.

- تكبّد قطاع السياحة في إسرائيل خسارة بلغت نحو 5 مليارات دولار، في حين تشير الأرقام الرسمية إلى تحقيق لبنان خسارة بقيمة 3 مليارات دولار في العام 2024.

- ارتفع معدل التضخّم في إسرائيل إلى 3.6 في المئة، في حين تراجع في لبنان من 222 في المئة في العام 2022 إلى نحو 35 في المئة في آب الماضي.

- يقدّر أن تغلق 60 ألف شركة إسرائيلية أبوابها هذا العام، مقارنة بمتوسط سنوي يبلغ حوالى 40 ألف شركة، ومعظم هذه الشركات صغيرة الحجم، ويعمل فيها قرابة خمسة موظفين. في المقابل، يظهر أنّ الشركات اللبنانية صامدة، وباستثناء الإقفالات في القطاع الخدماتي وتحديداً المطاعم، فإنّ بقية الشركات تعمل بشكل شبه طبيعي، وليس ثمة استثمارات جديدة لكي تهرب، إنّما شركات متجذّرة اعتادت الأزمات.

الخسائر على المدى البعيد

من حيث الشكل، تبدو التكاليف الاقتصادية التي تتحمّلها إسرائيل جرّاء الحرب، والتي تصل إلى نحو 42 مليار دولار، تفوق بأشواط ما يتحمّله لبنان. لكن في المضمون يخسر لبنان اقتصادياً أكثر بكثير من إسرائيل. فالأخيرة تملك ناتجاً بقيمة 577 مليار دولار واحتياطي عملات صعبة بقيمة 200 مليار. في حين أنّ الناتج اللبناني سينخفض هذا العام، بحسب أحسن التوقّعات، إلى 16.9 مليار دولار مع احتياطي 11 ملياراً ثلثه قد يكون للقطاع العام. هذا فضلاً عن التوقع بانكماش الاقتصاد اللبناني بنسبة تراوح بين 15 و25 في المئة. في حين سيتراجع النمو في إسرائيل إلى ما بين 1 و1.5 في المئة، مع التوقّع بالعودة إلى تحقيق معدّلات نمو تناهز 5 في المئة في العام 2025. والكارثة الكبرى بالنسبة إلى لبنان ستحلّ عقب انتهاء الحرب وبروز الأضرار. إذ تُقدّر الخسائر في الأملاك الخاصّة والعامّة بعد عام على انطلاق الحرب بين 8 و13 مليار دولار. والمشكلة لا ترتبط بالرقم الهائل فحسب، بل كذلك بما يشكّله من الناتج لأنّ كلفة الحرب على لبنان تشكّل حوالى 75 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر أن ينخفض إلى 16.9 مليار دولار. في حين أنّ هذه الخسارة لا تتجاوز 7.2 في المئة من الناتج بالنسبة إلى إسرائيل. ومع عجز لبنان عن الاقتراض وعدم وجود شهية كبيرة لدى الدول الشقيقة والصديقة لمساعدة لبنان بالمال وإعادة الإعمار، فإنّ المسار الذي سيتّخذه الاقتصاد عقب انتهاء الحرب سيكون بالغ الخطورة، وسيزداد تعقيداً كلما طال أمد الحرب.

قد يردد البعض قول المتنبي "أنا الغريق فما خوفي من البلل"، في إشارة إلى أنّ الانهيار قائم بحرب أو من دونها. إلّا أنّ ما أضاعه لبنان هو فرصة لتحقيق استقرار حذر إلى حين البدء بالإصلاحات ـ إن تحقّقت ـ وهذه الفرصة طيّرتها الحرب من بين أيدي الجميع، وهي تهدّد بعودة الأمور إلى ما كانت عليه صبيحة 18 تشرين الأول 2019، من عدم استقرار ترافقه خضّات نقدية واقتصادية عنيفة.