اعتقد اللبنانيون أنّ الخسائر التي مني بها الاقتصاد عقب حرب تموز 2006، كانت الأكبر. وقد وصف تقرير "لبنان: في الطريق إلى إعادة الاعمار والنمو"، الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء، العدوان وقتذاك بأنّه: "الأوسع والأشرس في تاريخ لبنان المعاصر". وعلى الرّغم من الحجم الهائل للأضرار المباشرة وغير المباشرة في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، فإنّ عدوان تموز يبدو "نزهة ليل صيفية"، مقارنةً بحرب 2023-2024 في النتائج والانعكاسات.
مقارنة بين حربي 2006 و2024
- من حيث التكاليف المباشرة وغير المباشرة
إن كان من الصعب تقدير حجم الخسائر للحرب قبل أن تنتهي، فمن الواضح أنّ التكلفة إلى اليوم فاقت بأشواط تلك التي ترتّبت على عدوان 2006. وبمقارنة بسيطة بين العامين 2006 و2024، يتبيّن مدى الضرر الذي لحق بالاقتصاد:
- انتهى عدوان تموز بعد 34 يوماً، فيما تستمر الحرب منذ 363 يوماً، من دون أيّ هدنة أو وقف مؤقت لإطلاق النار. وقد حرمت الاقتصاد طوال هذه المدة من الناتج الذي تولّده محافظتا الجنوب والنبطية على الأصعدة التجارية والزراعية والصناعية والسياحية. وفوّتت على الاقتصاد "الفرصة البديلة" لإصلاح ما تهدّم سريعاً والعودة إلى النشاط. من دون أن ننسى عامل الوقت الذي يفاقم الأضرار المباشرة وغير المباشرة مع كلّ يوم تستمر فيه الحرب.
- أدّت حرب 2006 إلى استشهاد 1200 مواطن، وخلفّت 4400 جريح. فيما نتج عن الاعتداءات الأخيرة منذ بدء التصعيد إلى 3 تشرين الأول 1974 شهيداً، و9384 جريحاً. وإن كانت الحكومة لم تعوّض بعد على عائلات الشهداء، فهي تتحمل تكلفة صحّية باهظة لمعالجة الجرحى.
- بلغت تكلفة إعادة التأهيل الأولية للأضرار والخسائر المادية المباشرة في حرب تموز حوالى 2.8 مليار دولار، وقد قُسّمت بين إعمار البنى التحتية والتعويض عن الدمار الذي لحق بالممتلكات. في حين تقدّر خسائر الحرب الحالية بنحو 8 مليارات دولار بسبب اتساع رقعة المناطق المستهدفة، ولا سيما في الجنوب والضاحية الجنوبية لمدينة بيروت مقارنةً بالعام 2006، وازدياد حدّة الاعتداءات.
- فاقت الخسائر غير المباشرة في عدوان 2006 الأضرار المباشرة التي بلغت 2.8 مليار دولار، والأمر نفسه سينسحب على الحرب الراهنة.
- تراجع الناتج المحلي الإجمالي في عدوان 2006 بقيمة مليار دولار، فيما تشير أحسن الفرضيات إلى تراجع الناتج في نهاية 2024 حوالى 15 في المئة وبقيمة 3 مليارات دولار. ومن المتوقع أن ينخفض الناتج في العام 2024 من نحو 20 مليار دولار إلى 16.9 مليار. في حين أنّ الناتج في العام 2006 بلغ 22 مليار دولار.
حققت المالية العامة للدولة خسارة بقيمة 1.6 مليار دولار، نتيجة تراجع الإيرادات نحو مليار دولار، تمثّل 4.2 من الناتج المحلي الإجمالي، وزاد الإنفاق العام حوالى 700 مليون دولار تتمثل 3.7 في المئة من الناتج. وفي حال تطبيق النسبة نفسها لتراجع الإيرادات على الحرب الحالية، فإنّ عائدات الدولة ستتراجع نحو مليار دولار، إن سلّمنا جدلاً بأنّ الناتج سيبقى نحو 20 ملياراً. ويمثل هذا التراجع قرابة 25 في المئة من الإيرادات المتوقّعة في موازنة 2024. أمّا بشأن النفقات فهي سترتفع في العام الجاري إلى 740 مليون دولار، أو ما يقارب 66 ألف مليار ليرة على سعر صرف السوق، إذا طبّقنا نسبة التراجع نفسها التي أعقبت حرب تموز. ومن شأن هذا الإنفاق بالليرة أن يشكّل ضغطاً كبيراً على سعر الصرف ويهدد بانخفاضه مقابل الدولار. وهو ما سيحمل نتائج كارثية على التضخم وانهيار القيمة الشرائية للرواتب بالليرة.
- من حيث القروض والمساعدات
الفرق الثاني عن حرب 2006 لا يقلّ خطورة عن الأضرار المباشرة وغير المباشرة. وهو يتمثّل في توقّع تراجع التقديمات والمساعدات والقروض الدولية. فما إن انتهت الأعمال الحربية والقتالية حتى بادرت الحكومة إلى دعوة المجتمع الدولي إلى عقد مؤتمر دعم للبنان في ستوكهولم لمعالجة المشكلات العاجلة الناتجة من الحرب. وبالفعل جمعت الدولة 900 مليون دولار أميركي، 87 في المئة منها جاء هبات ومساعدات، و13 في المئة قروضاً ميسّرة. وهذا ما لا يُتوقّع حصوله بعد انتهاء الحرب. فلبنان بلد متعثّر، متخلّف عن سداد ديونه منذ العام 2020، وتصنيفه الائتماني من قبل أكبر ثلاث وكالات عالمية هي: موديز، فيتش وستاندرد أند بورز، سيئ جداً، وهو عند مستوى RD، أي في خانة التخلّف المقيّد. وآخر التقييمات أتى في الأمس من ستاندرد أند بورز التي أعلنت أنّ "تصاعد الصراع بين إسرائيل و"حزب الله"، وكذلك تحركات الجيش الإسرائيلي في لبنان "أضعفت بشدّة" توقعات تعافي الاقتصاد اللبناني الهشّ. هذا عدا كون تصاعد القتال والهجمات قد يستمر حتى العام المقبل، كما قد يمتد إلى بقية أنحاء لبنان. وعليه، من المستحيل أن يستطيع لبنان الولوج إلى أسواق المال الدولية للاستدانة. ولا يبدو أنّ الدول العربية متحمّسة هذه المرة لمدّ لبنان بمبالغ مالية كبيرة والمساهمة في إعادة الإعمار، نتيجة فقدانها الثقة بالسلطة على نحو كبير. ولعلّ هذا ما دلّ عليه تراجع قيمة المساعدات وتوجهها إلى منظمات المجتمع المدني عقب انفجار المرفأ.
فقدان الأهالي أعمالهم بعد خسارة مدخّراتهم
يضاف إلى كلّ هذه التحديات، خسارة اللبنانيين مدخّراتهم نتيجة الانهيار. فخلافاً للعام 2006، لا يستطيع المتضررون الاعتماد على ما جمعوه ووضعوه في المصارف، ولا الاقتراض للتعويض عمّا خسروه. وكلّ ما سيحصلون عليه من تعويضات عامة ـ هذا إن حصلوا على شيء ـ لن يتجاوز 50 ألف دولار للوحدة السكنية، في حين أنّ قيمة أقلّ وحدة سكنية مع تجهيزاتها تتجاوز هذا الرقم بأشواط، وثمة وحدات تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات. أمّا المدخرات الموضوعة خارج المصارف، فاستنزفتها فترة النزوح الطويلة المترافقة هذه المرة مع تراجع المساعدات كمّاً ونوعاً، وارتفاع تكلفة الإيجار والمصاريف الحياتية بشكل هائل مقارنة بالعام 2006.
إن صحّت النظريات التي تقول إنّ الحرب لا تزال في أوّلها، وإنّ مداها الزمني قد يتجاوز العام 2026، فإنّ الحديث عن الخسائر يصبح "تخريفاً علمياً". إذ لن يبقى شيء من لبنان وسيتحوّل في هذه الحالة "غزة" ثانية فاقداً جميع المقومات.