أكثر ما تخشاه الأسواق العالمية، ولا سيما النفطية منها، حصل عقب الهجمة الصاروخية الإيرانية على إسرائيل. فالتهديد بتحوّل الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزّة ولبنان، وبعض اليمن وسوريا، إلى حرب إقليمية، "سَـتُشعل" أسعار "الذهب الأسود"، وتقوّض بلحظة جميع الجهود العالمية لمكافحة التضخّم والعودة إلى أسعار فائدة عقلانية. وأكثر من قد يدفع الثمن هو دول الاقتصاديات المأزومة، التي تعاني شحّاً في النّقد الصّعب، وتعتمد على استيراد المحروقات، ولبنان يتربّع على رأس قائمة هذه الدول.
بين ليلة إطلاق وابل الصواريخ الايرانية، وضحى معاينة الخسائر ميدانياً، قفزت أسعار النفط حوالى 5 في المئة. فارتفع خام برنت بنسبة 4.4 في المئة إلى 74.86 دولار، وخام غرب تكساس الوسيط بنسبة 4.9 في المئة إلى 71.51 دولار. مع العلم أنّ أسعار النفط قبل الهجوم الصاروخي كانت في أدنى مستوى في أسبوعين، نتيجة التوقّع بزيادة الإمدادات، وفتور الطلب العالمي عليها نتيجة المخاوف من تصاعد حدّة الصراع في الشرق الأوسط.
الضغط لجهة العرض
بمعزل عن حجم الطلب، يؤدي دخول إيران الحرب مباشرةً إلى الضغط على أسعار النفط من جهتي العرض والطلب.
من جهة أولى، يُتوقع أن تتراجع صادرات الخام من الدول العربية وإيران نتيجة تعطل سلاسل التوريد، عبر مضيق هرمز. فمن خلال هذا المضيق الذي تطلّ عليه إيران من محافظة بندر سلطان، يمرّ يومياً 40 في المئة من تجارة النفط العالمية، إذ تقطعه 30 ناقلة عملاقة تحمل 17 مليون برميل من نفط السعودية، والإمارات، وإيران، وعمان، والعراق، والكويت، وقطر. مع الإشارة إلى أنّ هذا المضيق هو الممر الوحيد والإلزامي للدول الثلاث الأخيرة.
ومن جهة ثانية، قد يتأثر العرض بإمكان استهداف المنشآت النفطية بشكل مباشر، على غرار ما حصل لحقل تمار الإسرائيلي قبالة عسقلان، حيث ذكرت وكالة "تسنيم" الإيرانية إصابة منصّة الإنتاج بصاروخ أدّى إلى تعطّلها. ويحتوي الحقل على احتياطيات من الغاز الطبيعي تقدّر بنحو 11.14 تريليون قدم مكعبة، أو نحو 315 مليار متر مكعب. ويشكّل هذا الحقل مصدراً رئيسياً لتزويد مصر والأردن غازاً للاستخدام وإعادة التصدير، خصوصاً من محطتي أدكو ودمياط. وبحسب الباحث الاقتصادي المتخصص في شؤون النفط والطاقة عامر الشوبكي، فإنّ "حقل تمار يزود الأردن، وخاصة مصنع البوتاس الأردني، غازاً. وهذا ما يرفع تكاليف انتاج البوتاس الأردني في حال استخدام الديزل أو زيت الوقود الباهظ الثمن".
الخسارة الكبرى للاقتصاد الإسرائيلي جراء الحرب تتمثّل في ضياع الفرصة البديلة.
الصدمة امتصّت، ولكن لم تُبلع
من الواضح أنّ الأسواق النفطية العالمية امتصّت الضربة الصاروخية الإيرانية الثانية، ولم تتفاعل معها بشكل حاد كما كان متوقعاً. وقد يعود هذا إلى انعدام الرغبة في التصعيد، وعودة الأمور إلى طبيعتها سريعاً بعد انتهاء الضربة. إذ طُلب خروج الإسرائيليين من الملاجئ، وفتح المجال الجوي للطيران المدني. إلّا أنّ هذا لا يعني مطلقاً النوم على حرير استقرار السوق لإمكان الرد الإسرائيلي على الرد، والخسائر الكبيرة التي مني بها الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة الضربات السابقة منذ بداية الحرب، وهذه الضربة تحديداً.
خسائر الاقتصاد الإسرائيلي المباشرة
وبحسب الشوبكي، فإنّ "إغلاق الحقل يُفقد إسرائيل أرباحاً تقارب 10 ملايين دولار يومياً، أي ما يعادل 3.6 مليار دولار سنوياً من الدخل المباشر الذي يولّده بيع الغاز الطبيعي". ويضاف إلى الخسائر المباشرة، تسجيل إسرائيل: تراجع حركة الطيران أو شبه توقفها، مع ما يعني ذلك من انخفاض أعداد القادمين الجدد والسياح إذ يعتمد عليهم الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير، بعدما فاقت الخسائر في القطاع 5 مليارات دولار. وتعطّل الموانئ البحرية لجهة البحر الأحمر والبحر المتوسط. وتراجع قيمة عملتها مقابل الدولار. إذ تراجع الشيكل بنسبة 1.2 في المئة أمام الدولار منذ بدء الحرب إلى 3.77 شيكل. وارتفاع نفقات الحرب التقديرية من نحو 36.7 مليار دولار إلى أكثر من 42 ملياراً، من دون الأخذ في الاعتبار كلفة الهجوم البري على لبنان وكلفة الحرب المباشرة مع إيران. الأمر الذي شكّل ضغطاً كبيراً على الموازنة العامة للدولة وارتفاع العجز فيها عن المستويات المتوخّاة. كذلك ارتفعت كلفة نزوح 100 ألف إسرائيلي إلى قرابة 2.3 مليار دولار.
وغير المباشرة
الخسارة الكبرى للاقتصاد الإسرائيلي جراء الحرب تتمثّل في ضياع الفرصة البديلة. أو بمعنى آخر الفرق في مستويات النمو التي كان من الممكن أن تحققها إسرائيل لو لم تدخل الحرب. فمن المتوقّع ألّا يرتفع الناتج المحلّي الإجمالي للعام الجاري عن 1.1 في المئة، وفقاً لأرقام وزارة المال، انخفاضاً من الرقم السابق المقدر بـ 1.9 في المئة. كذلك عمدت الوزارة إلى خفض توقعاتها بنمو الناتج للعام المقبل من 4.6 في المئة إلى 4.4 في المئة. مع التأكيد أنّ كلّ الأرقام تبقى فرضيات ترتبط بمدة الحرب ومدى اتّساعها وضراوتها. ويترافق هذا الواقع مع ازدياد حجم الدين العام نتيجة الحرب بقيمة 21.4 مليار دولار، من 21.6 مليار إلى 43 ملياراً بعد اندلاع الحرب في تشرين الأول 2023. يحصل ذلك مع تخفيض وكالة "موديز" في نهاية أيلول التصنيف الائتماني لإسرائيل درجتين دفعة واحدة، مبقيةً على توقعاتها السلبية للمرحلة المطلة جراء تفاقم الصراع في المنطقة.
الخسائر المؤكّدة التي مني بها الاقتصاد الإسرائيلي تُقابلها خسائر أعظم من الجانب اللبناني، ليس من حيث القيمة الكلية، إنما من حيث القيمة النسبية، مقارنة بحجم الاقتصاد المحلي المتقلّص حوالى 60 في المئة. ومن غير المستبعد تعرّض الاقتصاد لضغوط قد يصعب تحمّلها إذا ما طالت الحرب، خصوصاً من حيث سعر الصرف، ىكلفة النزوح، وأعباء إعادة الإعمار.