صبيحة 18 تشرين الأول 2019، "مسك" الانهيار الاقتصادي، "يد" الناتج المحلّي الإجمالي، وأخذ ينحدر به نزولاً. كلّ المحاولات لتحرير "الناتج" من قبضة الانهيار، لما له من دور محوري في تخفيف الآلام، باءت بالفشل. من "الجائحة"، مروراً بانفجار المرفأ، وصولاً إلى الحرب، تلاحقت الضربات التي أعدمت إمكان تحقيق الناتج أي نموّ يذكر، مبقيةً إيّاه في دائرة الانكماش الحادّ طوال سنوات.
بين العام 2019 ونهاية 2023، تراجع الناتج المحلّي الإجمالي من نحو 54 مليار دولار إلى ما بين 20 و 21.5 في أحسن الأحوال. وفقد الاقتصاد حوالى 62 في المئة من حجمه الحقيقي. التعويل كان على العودة إلى النمو بدءاً من العام 2024، نتيجة استقرار سعر الصرف وعودة الاستثمارات، ول اسيما في القطاع الخدماتي، واستقرار التدفّقات النقدية بالعملة الأجنبية وارتفاع العائدات العامة، وارتفاع قيمة المستوردات. وبالفعل قدّرت موازنة 2025 أن يرتفع "الناتج" خلال العام المقبل إلى نحو 27.5 مليار دولار. إلّا أنّ هذه الآمال تبددت مع خروج الحرب عن قواعد الاشتباك، وتوسّعها منذ منتصف أيلول في أنحاء لبنان. الأمر الذي سيدفع بالناتج المحلّي الإجمالي إلى التراجع مجدداً إلى مستويات غير مسبوقة، خصوصاً إذا طالت فترة الحرب وارتفعت الخسائر.
العلاقة بين "الناتج" و"مؤشر الثقة"
بمحاولة علمية لتقدير تأثير الحرب على النّاتج المحلي الإجمالي، عمد فريق الأبحاث الاقتصادية في "بلوم بنك" إلى اعتماد مؤشّر التزامن أو الثقة لمصرف لبنان CI) ـ (coincident Indicator. وهو المؤشّر نفسه الذي اعتمدت عليه دراسة أجراها "عازار وبلبل وموراديان" في العام 2020 لقياس تأثير التبدّل في هذا المؤشر على النّاتج المحلّي الإجمالي. ويمتاز هذا المؤشّر بأنّه ذو دلالة إحصائية مفيدة. وهو يبيّن: أنّ تَحوُل مؤشر (CI) إلى سالب بنسبة (-11.6٪) في العام 2019، أدّى إلى انكماش الناتج المحلّي الإجمالي – GDP بنسبة (-6.9٪). وفي العام 2020، أدّى تراجع مؤشر (CI) إلى (-34.5)، إلى انكماش في الناتج بنسبة (-21.4٪). وفي العام 2021 انكمش الناتج بنسبة (-7٪) نتيجة تراجع مؤشر (CI) بنسبة (-28.1٪). إلّا أنّ مصرف لبنان توقّف عن حساب مؤشر الثقة في العام 2022، وهذا ما دفع بالباحثين إلى الاعتماد على ظروف مماثلة حدثت في حرب تموز من العام 2006، للحصول على تقديرٍ لتأثير الحرب الحالية على الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2024، وتحديداً بعد منتصف أيلول. وهي الفترة التي تحوّلت خلالها الحرب من مضبوطة جنوباً على إيقاع قواعد الاشتباك، إلى مفتوحة.
الأرقام النظرية والفعلية للناتج تبقى رهن تطور الحرب، وأضرارها، ومداها الزمني.
الناتج يتراجع بنسبة 15.6٪
في صيف العام 2006 انخفض مؤشّر الثقة السنوي (CI) حتّى نهاية الحرب في آب 2006 بنسبة 32.9 في المئة. وعليه، فإذا افترضنا أنّ الحرب الحالية ستكون على غرار شدّة الحرب السابقة ودمارها، بناءً على الحسابات الماضية والعلاقة التي أُنشئَت بين مؤشر الثقة ونمو الناتج المحلي الإجمالي، فإنّ الانخفاض المقابل في الناتج المحلي الإجمالي السنوي سيكون 15.6 في المئة. وإذا افترضنا أنّ الناتج المحلّي الإجمالي يبلغ 20 مليار دولار في العام 2024، فإنّ تأثير الحرب على الناتج المحلّي الإجمالي للعام 2024 سيكون انخفاضاً بمقدار 3.1 مليار دولار (0.156 × 20). أي أنّ الناتج سيتراجع إلى 16.9 مليار دولار، وهو الرقم الأدنى الذي يبلغه منذ بدء الانهيار في العام 2019. مع العلم أنّ عدداً كبيراً من الخبراء قدّر في دراسة تحت عنوان Lebanon’s economy may shrink by up to 25% in 2024 as war intensifie, The National, September 24,، أن تكون نسبة التراجع، كما هو بارز في العنوان، 25 في المئة، إذا تعاظمت الحرب. وهذا ما يعني أنّ الناتج سيصبح 15 مليار دولار.
الأرقام أوّليّة ومؤقّتة
"التقديرات المذكورة أعلاه هي بالطبع أرقام أوّلية مؤقتّة"، بحسب دراسة فريق الأبحاث الاقتصادية. "وهي تعتمد بشكل صارم على الافتراض أنّ نتائج الحرب الحالية ستكون متقاربة إلى حدّ كبير مع حرب العام 2006. وإذا ثبت أنّ الحرب الحالية أقلّ تدميراً وأقصر زمناً، فإنّ التقديرات السلبية على الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 15.6 في المئة لن تخلو من المبالغة". ومع ذلك، فإنّ الدراسة تشير إلى أنّه "على الرّغم من أنّ الحرب الحالية بدأت في أيلول 2024، فإنّ مواجهة محدودة النطاق كانت مستمرة منذ تشرين الأول 2023، وعلى هذا النحو فإن تأثيرها المحبط على الناتج المحلي الإجمالي كان يتراكم منذ ذلك الحين. لذا، قد يكون تقدير 15.6 في المئة أقل من القيمة الحقيقية".
من الناحية النظرية الصرف، يؤدّي التراجع بنسبة 5 في المئة بمؤشر الثقة إلى تراجع الناتج بنسبة 1 في المئة. إلّا أنّ هذا الواقع "لا ينطبق على لبنان حرفياً"، بحسب عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الدكتور أنيس بودياب. "ولا يمكن الناتج أن ينخفض إلى مثل هذه المستويات المقدّرة نظرياً، ما دامت المرافئ البحرية والجوية تعمل وفق الشكل الحالي، والتدفقات النقدية مستقرة. ذلك أنّ الناتج المحلّي الإجمالي يتكوّن على نحو أساسي من تحويلات المغتربين بقيمة 6.7 مليار دولار، وقد يرتفع هذا الرقم نتيجة زيادة المساعدات الأهلية، وتدفق المساعدات الدولية، ومنها ما طلبته الحكومة من دعم مقداره 400 مليون دولار. تُضاف إليها أرقام التصدير بقيمة تصل إلى 4 مليارات دولار، والاستيراد الذي من المتوقّع أن لا يتراجع كثيراً. خصوصاً أنّ الجزء الأكبر منه هو لتلبية الحاجات الأساسية من محروقات وغذاء وأدوية، وهي المواد التي تعرف بـ "استهلاك الكفاف". وإذ جمعنا جميع هذه الأرقام فإنها تصل إلى ما بين 18 و 19 مليار دولار".
على أنّ الأرقام النظرية والفعلية للناتج تبقى رهن تطور الحرب، وأضرارها، ومداها الزمني. ومن الطبيعي أنّه متى بدأ العدو استهداف البنى التحتية والمرافئ الحيوية والمنشآت الأساسية، تتغيّر المعادلة كلّها، وقد لا يعود إلى الأرقام أيّ اعتبار.