كما يمكن قراءة الرسالة من عنوانها، يمكن الاستنتاج كيف ستتعامل الدولة مع تبعات الحرب بعد انتهائها، انطلاقاً من معالجتها ملف النازحين. فبغضّ النّظر عن محدودية الموارد المالية، وحساسية الإنفاق بالليرة، فهي تفتقر إلى أبسط قواعد التنظيم الرشيدة. وتتصرّف كالتلميذ الكسول الذي يؤجّل واجباته المدرسية إلى آخر لحظة قبل الامتحانات، فتكون نتيجته الرسوب.
فوضى النزوح تعمّ لبنان لليوم الخامس على التوالي بعد خروج الحرب عن قواعد الاشتباك وتوسعها على مساحة الوطن كله. والسبب: أنّ "خطةّ الطوارئ الوطنية"، التي وضعت أساساً مطلع الحرب لمعالجة انعكاسات النزوح، لم تُفعّل طوال الأشهر الأحد عشر الماضية بحجّة أنّ سيناريواتها مبنيّة على حرب موسّعة. فالهدف من الخطة "الأمّ" كان "حماية اللبنانيين واللبنانيات من انعكاسات عدوان إسرائيلي واسع"، و"تأمين مستلزماتهم وإغاثتهم في حال حصول تهجير قسري واسع". وما قصدته الخطة بـ"الواسع" هو نزوح نحو مليون لبناني خلال 45 يوماً، مقارنة بما حصل في حرب تموز 2006. وعلى هذا الأساس، ظلّت الخطة خامدة إلى شهر آب الماضي، نتيجة ارتفاع مؤشرات توسّع الحرب. فأقرّ مجلس الوزراء وضع 7 مدارس إضافية في تصرّف "لجنة تنسيق مواجهة الكوارث والأزمات الوطنية". ومع اشتداد العدوان في 23 أيلول الماضي، أعلنت اللجنة الوطنية عن فتح 186 مدرسة رسمية ومعهد لاستقبال النازحين. وقد يكون هذا أكثر ما استطاعت أن تفعله نظراً إلى توفر المدارس"، بحسب عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الدكتور صادق علوية. "مع كلّ ما يشوب هذه المدارس من شوائب لا تصلح لتعليم التلاميذ، فكيف الحال باستقبال النازحين".
التدابير المتخذة
أشارت أرقام التقرير المحدّث الرقم (3) الذي يرصُد انعكاسات الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان حتّى 26 أيلول، إلى أنّ عدد النازحين المسجّلين في مراكز الإيواء المعتمدة من قبل غرفة العمليات الوطنية حتّى صدور هذا التقرير ارتفع إلى 77100 نازح، وفق المنصة الوطنية للاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. وهذا ما يحتّم طرح بعض الأسئلة: هل تُؤمن متطلّبات النازحين الصحّية والغذائية والاجتماعية بشكل كاف؟ ومن أين مصادر التمويل؟ وكم تبلغ تكلفة النزوح؟ وماذا عن بقية النازحين الذين لم يقصدوا مراكز الإيواء الجماعية؟ من يهتم بهم ويدعم المجتمعات المضيفة؟
بالأرقام، يتبيّن أنّ إجراءات استجابة الإدارات الرسمية والمنظمات الدولية اقتصرت على التالي:
- عمد مجلس الوزراء في 14 آب إلى نقل اعتماد بقيمة 150 مليار ليرة من احتياطي الموازنة العامّة إلى حساب الهيئة العليا للإغاثة لدعم خطة الطوارئ.
- أمّنت وزارة الشؤون الاجتماعية 10 آلاف ليتر من المازوت لمراكز الإيواء في صيدا.
- سدّدت وزارة الصحة 10 آلاف مليار ليرة للمستشفيات بدلات استشفاء ومعالجة جرحى.
- وزع الصليب الأحمر اللبناني 3439 بطانية، و1817 فرشة، و4394 زجاجة مياه، و1124 ربطة خبز، و2510 وجبات جاهزة، و1046 مجموعة نظافة شخصية، و3183 حصة غذائية.
- قدّمت المنظمات الأممية التابعة للأمم المتحدة إلى 25 أيلول الجاري: 14913 وجبة ساخنة، تزويد 47100 نازح بالمعلّبات، توزيع 400 حصة غذائية و5000 ربطة خبز. توزيع 70 ألف لتر مياهاً. توزيع 7000 حصة من مستلزمات النظافة الصحية للنساء. تقديم مستلزمات الإيواء لحوالى 32344 نازحاً.
حصة الدولة من المساعدات تكاد لا تُذكر
ممّا يظهر في الأرقام أنّ ثقل المساعدات على المنظمات الدولية والمحلية وليس على الحكومة اللبنانية، وهي تتركز بشكل أساسي على مراكز الايواء. مع العلم أنّ ما تستضيفه هذه المراكز (77100 نازح) لا يشكل أكثر من 30 في المئة من مجمل النازحين إذا افترضنا أنّ العدد الإجمالي يصل إلى 250 ألفاً بحسب التقديرات، و15 في المئة إذا تبنّينا الرقم الذي أعلنه وزير الخارجية، 500 ألف نازح.
من يتحمّل التكاليف؟
تشير تقديرات وزير البيئة ناصر ياسين المسؤول عن خطة الطوارئ في أكثر من حديث صحافي، إلى أنّ كلفة إغاثة 100 ألف نازح بلغت 72 مليون دولار، دفعت المنظمات الدولية منها 27 مليوناً والدولة 10 ملايين. ومع توسّع العدوان، فإن تقدير الكلفة مرتبط بعاملين: عدد النازحين والوقت. وهما مرتبطان أحدهما بالآخر، و"لم تعرهما الحكومة الاهتمام الكافي"، بحسب علوية، "لأنّها لم تأخذ احتمال توسّع الحرب على محمل الجد". ولو تعاملت بجدية مع الحرب منذ اندلاعها "لكانت استطاعت أن تأخذ العديد من التدابير الاحترازية بما يتعلّق بالنازحين، وتتلافى المشكلات التي تحصل على الأرض اليوم، ابتداء من اختناق الناس على الطرق، مروراً بعدم تجهيز مراكز الإيواء، وصولاً إلى دعم المجتمعات المضيفة"، يزيد علوية. ومن هذه التدابير:
- حجز مبلغ مالي لا يقلّ عن 10 آلاف مليار ليرة، يخصص للإيواء والغذاء والصحة. ترصده الحكومة من خلال نقل احتياطي أو سلفة خزينة، وتبدأ القيام بعمليات شراء غبّ الطلب مع مورّدي الفرش والغذاء والأدوية ومستلزمات النظافة بعقود شراء، وفقا لأحكام الشراء العام. على أن تتسلم المواد غي حتل بدء الحرب.
- الاهتمام بالشقّ الأمني المتعلّق بالنازحين وانتقالهم من الجنوب والبقاع إلى باقي مراكز الإيواء كي يحصل بسلاسة عند الساعة الصفر ومن دون معوقات كما حصل.
- زيادة الاعتماد للهيئة العليا للإغاثة عن الرقم الذي رُصد قبل ساعات من توسّع العدوان الجوي والبالغ 150 مليار ليرة لتتمكن من القيام بواجباتها.
- التوقف عن الاعتقاد بأنّ المجتمع الدولي والمنظمات الدولية سيساعدان النازحين.
- أخذ جميع الاحتياطات والتدابير لمساعدة المجتمعات المضيفة.
- تفعيل خطة الطوارئ الأمنية.
- تأهيل المدارس عبر إيكال مهمة تجهيزها بدورات المياه والمطابخ ومستلزمات الإيواء إلى مديريها.
بدلاً من ذلك "انهمك عدد من الوزراء بصلاحياتهم، واختلفوا في ما بينهم أثناء نقاش الخطة"، يقول علوية. "وحين اكتملت، لم توضع موضع التنفيذ. لكونها تفتقد التمويل. والخطط بلا تمويل هي خطط "باور بوينت" (power point)، منمّقة ومنظّمة وعرضها متقن، لكن لا يمكن تطبيقها".
كان يقال في الماضي "العين بصيرة واليد قصيرة" للدلالة على عجز المرء عن المساعدة رغم رغبته في تقديم يد العون، ونيته الحسنة، إلّا أنّ قصر اليد في لبنان سببه الانهيار الذي لم تعوّضه بصيرة العين، وهو يفاقم المشكلات في ملف النازحين وجميع الملفات.