يستمر مصرف لبنان منفرداً في إدارة الانهيار المتواصل عبر السير بين نقاط الأزمات المتوالد بعضها من أرحام بعض. فعلى الرّغم من دوره المحوري في التسبّب بواحدة من أخطر الأزمات المالية في العالم، قُدّم الاقتصاد إليه "على طبق من فضة" ليديره بموجب التعاميم. كما كان في ربيع 2020، تاريخ ولادة التعميم 148، باكورة قرارات تنظيم الاضطرابات المالية والنقدية، هكذا سيكون الوضع في المستقبلين القريب والبعيد. فالسلطة السياسية استقالت من مهمّة وضع السياسات الاقتصادية والمالية، مفوّضة أمرها إلى المركزي ليديرها بالسياسة النقدية. فيصيب حيناً ويخطئ أحياناً. ويستمرّ التخبّط.

بالتزامن مع الارتفاع المطّرد للتكاليف الحربية، أصدر حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري بياناً أعلن فيه أنّه قرّر الطلب من المصارف التسديد استثنائياً، ولمرة واحدة، مبلغاً يساوي 3 دفعات شهرية للمستفيدين من التعميمَين 158 و166 في بداية تشرين الأول. على أن يعود العمل بأحكام التعميمَين المذكورَين في تشرين الثاني إلى ما كان عليه.

 الهدف من القرار يتخطّى مساعدة المودعين، ليشمل ضخّ المزيد من الدولارات في السوق ...

أهداف توسيع الاستفادة من التعميمين 154 و166

في الشكل، يظهر أنّ القرار "تعاطفي". هو يهدف إلى مساعدة المودعين في ظلّ الظروف الاستثنائية، التي دفعت أكثر من نصف مليون مواطن إلى النزوح عن أماكن سكنهم وعملهم. فيحصل المودعون المستفيدون من التعميم 154 على 1200 دولار في نهاية هذا الشهر، بدلاً من 400. فيما يحصل المودعون المستفيدون من التعميم 166 على 450 دولاراً بدلاً من 150. وتساعد هذه الإضافات على المبالغ المقبوضة، المودعين في تأمين حاجاتهم السكنية والصحية والغذائية.

في المضمون، يبدو أنّ الهدف من القرار يتخطّى مساعدة المودعين، ليشمل ضخّ المزيد من الدولارات في السوق من أجل موازنة ما ستنفقه الحكومة بالليرة بغية تلبية المتطلّبات المتزايدة تحت وطأة الحرب. ففي ظل شحّ الدولار بسبب انعدام الاستثمارات وانخفاض المساعدات وخروج المغتربين والسياح، فإنّ التوسع بإنفاق الليرات التي راكمتها الخزينة طوال الفترة الماضية سيتحول طلباً مباشراً أو غير مباشرٍ على الدولار. فالقطاعات الصحية والخدماتية والإغاثية ستستعمل الأموال العامة بشكلين:

الأول، لإعادة تكوين مخزونها من المستلزمات والأدوية والمعدّات والصيانة وقطع الغيار والمحروقات. وهي كلّها متطلّبات تُدفع بالعملة الصعبة وتستلزم تحويل الليرات إلى دولارات.

الثاني، تسديد بدلات أتعاب الأطباء والممرضين والموظفين وعمّال الإغاثة. وهذه الأموال ستتحول حكماً إلى الدولار من خلال الإنفاق على السلع، التي تشكّل حصّة المستورد منها أكثر من 90 في المئة، أو من أجل الادخار.

صرف الأموال بحسب الأولويات

وبالفعل، أوعز وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل إلى جميع الإدارات المعنية في الوزارة أن تستمر في تخصيص الأولوية في تجهيز أموال الملفات المرتبطة بشؤون الإغاثة وصرفها، وكلّ ما يتمّ تحويله من وزارة الصحة سواء مستحقات المستشفيات وسواها، وكذلك تلك المحوّلة من الجهات المختصة كبدلات أتعاب للأطباء وشركات الأدوية، وتقديمها على باقي الملفات، استجابةً لمتطلّبات الظرف الراهن من الاعتداءات الإسرائيلية الإجرامية وحاجات النازحين. وقد ترافق هذا الطلب مع إعلان مصرف لبنان أنّه لا يضع أيّ قيود تعوق صرف الحكومة الأموال من حسابها الرقم 36، لزوم حاجات الوزارات. ومن المعلوم أنّ حساب الدولة ارتفع منذ بداية العام الماضي حتى أيلول الجاري، إلى نحو 500 ألف مليار ليرة، تعادل 5,7 مليار دولار على سعر صرف السوق.

التوازن بين ضخ الليرات والدولارات

وما يوكّد أنّ الهدف الأساسي من توسيع الاستفادة من التعاميم هو حماية الاقتصاد، إعلان المركزي أنّ السياسة النقدية ستقوم على ضخّ الليرة والدولار معاً بتوازن مدروس لتثبيت الاستقرار النقدي. وبالأرقام، فإنّ قيمة الأموال المدفوعة سنوياً، بحسب التعميمين 154 و166، تبلغ 1.3 مليار دولار، تدفعها المصارف مناصفةً مع مصرف لبنان، ويستفيد منها 370 ألف مودع. وهذا يعني أنّ القيمة الشهرية توازي 108 ملايين دولار تقريباً. ومع توسيع الاستفادة من التعاميم، فإنّ المبالغ بالدولار النقدي التي ستضخ في الأسواق في تشرين الأول المقبل ستتضاعف 3 مرات، وستبلغ 325 مليون دولار. ومن شأن هذا الرقم أن يوفّر كمية كافية من الدولارات، تعادل ما ستنفقه الحكومة بالليرة مرحلياً.

مع العلم أن ضمان الاستقرار لشهر إضافي، أو بتعبير أدقّ شراء المزيد من الوقت للدولة بالسياسة النقدية، لن يدوم طويلاً. لأنّ التكاليف المباشرة المتصلة بالتعويض على الضحايا وإعادة الإعمار، وإصلاح البنى التحتية أصبحت كبيرة جداً. وليس مستبعداً أن تكون الكلفة قد تضاعفت مرة ونصف المرة إلى الآن، عن آخر رقم معلن قبل توسّع العدوان والمقدّر بـ 8 مليارات دولار. فهل يمكن الدولة ضخّ 500 ألف مليار ليرة، للتعويض؟ وما مصير سعر الصرف، وبالتالي التضخّم والمخاطرة بفقدان جميع الزيادات التي أعطيت على الرواتب، وخصوصاً إلى القطاع العام، مفعولها بين ليلة وضحاها؟ هذا من دون أن ننسى حتمية تراجع الإيرادات من الضرائب والرسوم نتيجة تراجع الأعمال، وإقفال المزيد من المؤسسات. وبخاصة في قطاع الخدمات الذي يرتبط مباشرة بالاستقرار الأمني. وتعليق استيفاء الضرائب والرسوم.

الاتكال على المساعدات

من السهل الاستنتاج من تصريحات المسؤولين أنّ "الاتكال على المساعدات بعد انتهاء الحرب". فمن المستحيل أن يتحمّل لبنان كلفة التعويضات وإعادة الإعمار. "هذا لم يحصل بعد عدوان 2006، برغم الاستقرار الاقتصادي آنذاك، ولن يحصل اليوم في ظلّ أكبر انهيار. ولكن ماذا إذا لم تصل المساعدات أو لم تكن بالقدر الكافي. خصوصاً أن لا إشارات من الدول الشقيقة والصديقة إلى إمكان مساعدة لبنان كما حصل عقب حرب تموز 2006.

ثمة أصوات تلوم الحكومة، ومن خلفها مصرف لبنان، على عدم استعمال ما كدّسته من إيرادات خلال العامين المنصرمين، أقلّه على خطّة الطوارئ. وقد تكون هذه الأصوات على حق نظراً إلى ما يواجهه النازحون من مآسٍ نتيجة عدم تجهير مراكز الإيواء وتأمين أبسط متطلّباتها من فرش وبعض مواد التنظيف والأغذية. لكن الأكيد أنّه كان من شأن الإنفاق بالليرة مفاقمة المشكلات، ولا سيما منها المتصلة بانهيار سعر الصرف وعودة التضخم إلى الارتفاع. إذ على الرّغم من استقرار سعر الصرف عند 89500 ليرة ظلّت نسبة التضخم لشهر آب 35 في المئة، بحسب الإحصاء المركزي. فكيف لو كان سعر الصرف أعلى؟ إلّا أنّ الحلّ ليس في رمي المشكلة على مصرف لبنان، وتركه يمتصّ الصدمة تلو الأخرى "بالتي هي أحسن"، إنّما بالعودة سريعاً إلى تحقيق الإصلاحات الهيكلية. وهي، للمناسبة، طلبتها القيادة الجديدة لمصرف لبنان بشرط تولّيها المسؤولية، وأعطت الحكومة مهلة 6 أشهر لتطبيقها، قبل نحو عام ونصف العام.