سريعاً تبدّل المشهد الاقتصادي بالتوازي مع اتساع رقعة الحرب وخروجها عن قواعد الاشتباك المعمول بها منذ تشرين الأول من العام الماضي. مجال الرؤية المتعلّق باستقرار سعر الصرف أخذ يضيق، بعدما كان مضاءً على مدى أشهر طويلة بـ "كشّافات" السياستين المالية والنقدية. فالليرة، وإن استطاعت أن تمتصّ صدمة الارتفاع المفاجئ والمطرد للخسائر المادية المترافقة مع أوسع موجة نزوح، ستكون المحافظة على ثباتها مهمّة محفوفة بالمخاطر.
إلى أول من أمس، ظلّت العملة الوطنية "معقّمة"، بحسب تعبير الخبير الاقتصادي البروفيسور بيار خوري. وهذا ما يعني أنّ السيولة المتوفّرة بالليرة محدودة جداً، نتيجة توقّف مصرف لبنان عن طبع الليرات. وعليه، فإنّ الكمّية المحدودة من الليرات "عاجزة عن أن تنشئ أرضية لطلب الأفراد والشركات والمضاربين على الدولار والتسبّب بتدهور سعر الصرف". يساعد على ذلك عدد من الإجراءات النقدية والمالية.
بالإضافة إلى التوقّف عن طبع الأموال، عمد مصرف لبنان في إطار السياسة النقدية، إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات، أهمّها:
* الاستمرار منذ آذار 2023 في امتصاص الليرات. ونتيجة لهذه السياسة تراجعت الكتلة النقدية الموضوعة في التداول من حوالى 90 ترليون ليرة إلى حوالى 57 ترليوناً (637 مليون دولار) إلى منتصف أيلول، كما تظهر موازنة المركزي نصف الشهرية.
* التوقّف عن دفع الليرات للمودعين من حساباتهم "اللولارية". فحُصرت المبالغ المدفوعة بموجب التعميم 154 بالدولار النقدي، وأُلغي بند إلزام المودعين بسحب 400 دولار على سعر الصرف الرسمي 15 ألف ليرة.
* حل التعميم 151 الذي كان يسمح للمودعين الذين تشكلت حساباتهم بالدولار بعد 17 تشرين الأول 2019، بسحب 1800 دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة (27 مليون ليرة يدفع نصفها نقداً، والنصف الآخر يوضع في حساب البطاقة)، محل التعميم 166 الذي يسمح للشريحة نفسها من المودعين بسحب 150 دولاراً نقداً شهرياً.
* الاستمرار في تحويل رواتب القطاع العام إلى الدولار على سعر صرف السوق (89500 ليرة).
* إصدار التعميم 165 الذي يتيح للمصارف إعطاء أصحاب الودائع النقدية بالليرة والدولار دفاتر شيكات وبطاقات مسبقة الدفع.
* التوقّف عن إقراض الدولة بالعملتين الوطنية والأجنبية لتمويل شراء الفيول وبقية المتطلّبات.
* زيادة الاحتياطي الإلزامي بالعملة الأجنبية بمقدار ملياري دولار منذ مطلع آب 2023 إلى منتصف أيلول الجاري، فيصبح حوالى 10 مليارات و800 مليون دولار.
* ارتفاع احتياطي الذهب (286 طناً) إلى أكثر من 23 ملياراً و700 مليون دولار بالتوازي مع ارتفاع الأوقية إلى حوالى 2630 دولاراً.
يٰذكر أن وزارة المال أكملت ما بدأه مصرف لبنان من حيث امتصاص الليرات وتخفيض الإنفاق من خلال:
- الطلب من المستوردين سداد الرسوم الجمركية نقداً بالليرة اللبنانية وليس عبر حوالات مصرفية من حسابات الليرة البنكية (البيرة).
- إلزام التجار سداد الضرائب نقداً.
- التوقف عن الإنفاق على المشاريع والبنى التحتية والبرامج في موازنة 2024.
- عدم إقرار سلسلة الرتب والرواتب. وبالتالي، حصر الزيادة المعطاة لموظفي القطاع العام بالتقديمات الاجتماعية من دون أيّ تعديل على تعويضات نهاية الخدمة.
- مراكمة حوالى 5.7 مليار دولار من العائدات في حسابها في مصرف لبنان.
- استمرار التخلّف عن سداد الديون وبقية المتطلبات للجهات المحلية والخارجية.
- الضغط على الإنفاق الصحي والاجتماعي يهدّد ثبات الليرة
هذه الإجراءات كلها ساعدت خلال الفترة الماضية على استقرار سعر الصرف، وتراجع التضخم إلى أدنى مستوى له منذ أن لامس الخط الأحمر في العام 2023، متجاوزاً 222 في المئة. وهو ما أمّن استقراراً نسبياً في النشاط الاقتصادي وعمل المؤسسات، وحافظ إلى حد ما على القدرة الشرائية للمداخيل والأجور. "إلّا أنّ هذا الاستقرار قد يتبدّل في أيّ لحظة نتيجة توسّع الحرب، مع ما تخلفّه من ضغط على القطاعين الصحي والاجتماعي"، بحسب خوري. "بسبب حاجة الدولة إلى القيام بعمليات تمويل غير تقليدية لا تخوّلها موازنتها الحالية القيام بها. وربما قد تلجأ إلى مصرف لبنان للاستدانة بالليرة أو الدولار كما كانت تفعل سابقاً. وسيجد المركزي نفسه ملزماً بالاستجابة لأسباب وطنية. وهنالك تصبح احتمالات التأثير على سعر الصرف مفتوحة".
هاجس تدهور سعر الصرف حضر في افتتاحية تقرير آب الصادر عن "جمعية مصارف لبنان"...
المحافظة على التواصل مع المصارف المراسلة
على أن هاجس تدهور سعر الصرف حضر في افتتاحية تقرير آب الصادر عن "جمعية مصارف لبنان". وقد اعتبر الأمين العام لـ"الجمعية" الدكتور فادي خلف أنّ "التحدّي الأكبر في ظلّ تنامي الضغوط الاقتصادية والمالية الناتجة من الحرب يتمثّل في المحافظة على ثبات سعر الصرف. إذ تزداد التحديات الداخلية والخارجية". وشدد خلف على متابعة المصارف السعي إلى تأمين الحدّ الأدنى من السيولة لضمان استمرار العمل في التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان، والتي نظّم عبرها السيولة المطلوبة لدى المصارف المراسلة وتلك المطلوب تأمينها بحسب التعميمين 158 و166، وعبّر عن تخوّفه من انقطاع التواصل مع المصارف المراسلة. فـ "هذا التواصل يمثّل الشريان الرئيسي الذي يربط القطاع المصرفي اللبناني بالنظام المالي العالمي، وهو الأمر الذي يضمن استمرار الخدمات المالية والتحويلات النقدية، خاصة في ظل القيود المتزايدة على التحويلات المالية الدولية وتدهور الأوضاع الأمنية. من دون هذا الاتصال المستمرّ مع المصارف المراسلة، قد يتعرّض لبنان لعزلة مالية تهدّد بتعطيل الخدمات الحيوية وقطع الشريان المالي الذي تعتمد عليه البلاد لاستيراد المواد الأساسية وتلبية حاجات السكّان اليومية.
حركة المطار تتراجع 40٪
هذه المخاوف ترافقت مع تراجع حركة المطار بنسبة 40 في المئة بين عشية بدء العدوان الموسّع، وصباحه. إذ "أوقفت 14 شركة طيران رحلاتها إلى لبنان حتّى تشرين الأول المقبل"، بحسب نقيب وكالات السياحة والسفر جان عبود. والشركات هي: tarom ،Kuwait airways، saudia، Lufthansa، Sun Express، Swissair، France Air، Transavia، Turkiye، Cyprus Airway . وخفّضت بقية الشركات من عدد رحلاتها من ثلاث إلى رحلة أو رحلتين في اليوم حدًّا أقصى، مثل الخطوط الجوية الأثيوبية وشركة الاتحاد، والأردنية والقطرية والمصرية والإماراتية. في حين تستمرّ شركة طيران الشرق الاوسط في عملها كالمعتاد، وهي تغطّي كلّ النقص الحاصل على صعيد الرحلات". ولا تقتصر خطورة تراجع عمل المرفق الجوي الوحيد في لبنان على انخفاض عائدات الدولة من الرسوم على المسافرين وشركات الطيران المباشرة، إنّما على الانعكاسات غير المباشرة على تدفّق الدولارات سواء التي يحملها المغتربون معهم بالجيب، أو تلك التي ينفقونها على الإقامة في لبنان. ولطالما شكّل إنفاق المغتربين والسياح بالعملة الأجنبية مدماكاً أساسياً يُعتمد عليه في المحافظة على سعر الصرف لكونه يؤمّن العرض مقابل زيادة الطلب.
على الرغم من الضغوط الهائلة التي تولّدها الحرب على أيّ اقتصاد، فإنّ مشكلة لبنان تتعدّاها إلى إهماله تنفيذ الإصلاحات منذ 5 سنوات. ولو أن الأكثرية سعت إلى إنجاح الخطة الاقتصادية مطلع الأزمة، وأعادت هيكلة الديون والقطاع العام والقطاع المصرفي، ولم تتلكأ في مكافحة الفساد، لكان وطء الحرب أخفّ.