يحاول لبنان الرسمي، بقدر المستطاع، تجنّب إدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي. فبعد أقلّ من شهر، ستُحدّد "المجموعةُ" الدولَ ذات الإجراءات الضعيفة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، في اجتماعات الجمعية العامّة التي ستُعقد في العاصمة الفرنسية – باريس، بين 21 و 25 تشرين الأول المقبل. ومن المتوقّع ألّا يَنفَد لبنان بريشه هذه المرة، لأنّه ما زال "يصوّب" بعيداً عن الهدف الأساسي. فهو ما برح يركّز على مكافحة الاقتصاد النقدي، ويتناسى المتطلّبات التي لا تقلّ أهمية، والتي تتمثل في تجميد أصول الملاحقين دولياً بجرائم الفساد المالي، وفي تتبع الجرائم، ولا سيما المتّصلة بتجارة المعادن والأحجار الكريمة والعقارات، من خلال التنسيق بين القضاء والأجهزة الأمنية وتفعيل القوانين، ومكافحة تصنيع المخدرات وتهريبها.

بين المراجعة ما قبل الأخيرة، التي حيّدت لبنان عن اللائحة الرمادية في كانون الأول 2023، والمراجعة المستقبلية، تركّز الجهد على مكافحة الاقتصاد النقدي. وقد اتخذ مصرف لبنان مجموعة من الإجراءات، أهمّها: إصدار التعميم 165 في نيسان 2023. وهو التعميم الذي ينصّ باختصار على الطلب من المصارف فتح حسابات جديدة لدى مصرف لبنان بالليرة والدولار مخصّصة حصراً لإجراء جميع العمليات المتعلّقة بمقاصّة الشيكات والتحاويل الإلكترونية الخاصة بـ"الأموال النقدية". وقد هدف هذا التعميم إلى تشجيع المواطنين على استخدام الأموال الطازجة المكوّنة بعد 17 تشرين الأول 2019، من خلال الشيكات والبطاقات المصرفية. وهذا ما يحدّ من الاقتصاد النقدي من جهة، ويسمح بتتبع العمليات من الجهة الأخرى. والإجراءان أساسيان في عملية مكافحة تبييض الأموال التي تطلبها مجموعة العمل المالي. فما الذي تحقّق بعد نحو عام ونصف العام على التعميم 165؟

العودة إلى البطاقات المصرفية

تظهر الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان وجود مليون و 875 ألف بطاقة دفع في لبنان إلى نهاية 2023: 64 في المئة منها مخصّصة للسحوبات، و27 في المئة مسبقة الدفع. ويمكن استخدام هذه البطاقات للدفع بالدولار النقدي والليرة. ومن الملاحظ، بحسب رئيس فريق الأبحاث الاقتصادية في بنك بيبلوس نسيب غبريل، "عودة العديد من المتاجر ونقاط البيع إلى قبول هذه البطاقات، بعدما أحجمت عنها منذ اندلاع الأزمة في خريف 2019، أو فرضت شروطاً تمثّلت في تقاضي نصف المبلغ المراد تسديده نقداً. وهذا ما أدّى إلى تراجع عدد نقاط البيع التي تملك جهاز الدفع عبر البطاقات (POS) من حوالى 48 ألف نقطة بيع في نهاية العام 2019 إلى نحو 36900 في العام 2023، تقبل بطاقات الدفع بشكل استنسابي، مع فرض اقتطاع نسبة مئوية من حساب العميل لقبول استخدام البطاقة".

يعود القبول المستجد لهذه البطاقات إلى تشجيع مصرف لبنان والمصارف على استخدام هذه البطاقات، ولتخفيض مخاطر حمل كميات كبيرة من العملة الورقية، خصوصاً الليرة لكون المبالغ أصبحت كبيرة. "ساعد على ذلك إمكان تسديد المبالغ بنسبة 100 في المئة بواسطة البطاقات منذ حوالى عام"، يضيف غبريل. "وتشجيع استخدام البطاقات لخفض التداول بالنقد وتصغير حجم الاقتصاد النقدي". ويتعيّن على المؤسسات التجارية أن "تعود إلى تفعيل وسيلة الدفع هذه. خصوصاً أنّ هناك اتفاقاً بين مصرف لبنان والمصارف التجارية لاستيعاب المتاجر والمصارف كلفة استخدام البطاقة بدلاً من العميل". وقد أصبح الاتجاه العام، بحسب غبريل "التشجيع على استخدام بطاقات الدفع بنسب أكبر، لأنّها تصبّ في مصلحة المشتري ومصلحة الاقتصاد، وتساهم في تخفيض التداول بالنقد". إلّا أنّ هذه الاجراءات، على أهميتها، تبقى محدودة القدرة من وجهة نظر غبريل، ذلك أن "متطلّبات تخفيض الاقتصاد النقدي أوسع بكثير من زيادة استخدام بطاقات الدفع. ولو أنّها خطوة مهمّة في هذا الاتجاه".


لا يزال المواطنون غير مشجّعين على استخدام البطاقات والشيكات بشكل كبير...

الشيكات "الفريش" تشكّل 11 في المئة فقط

على صعيد الشيكات النقدية، تبدو العودة خجولة أيضاً. إذ تظهر الأرقام الأخيرة وصول العدد التراكمي للشيكات الصادرة من حسابات جديدة في تموز 2024، إلى 14534 شيكاً، منها 9833 بالدولار بقيمة 133 مليون دولار و4701 شيكاً بالليرة بقيمة 7846 مليار ليرة. وعلى أساس شهري، بلغ إجمالي عدد الشيكات الجديدة الصادرة في تموز 2024، 3486 شيكاً، أي أكثر من رقم الشهر السابق الذي بلغ 2259. وتبدو أرقام الشيكات بالليرة والدولار النقدي قليلة جداً مقارنة بعدد الشيكات بـ "اللولار" و"الليرة"، الليرة البنكية المحجوزة. إذ بحسب البيانات الصادرة عن جمعية مصارف لبنان، بلغ إجمالي عدد الشيكات المقاصّة في النظام المالي اللبناني 123460 شيكاً في تموز 2024، متراجعاً من 298043 شيكاً في تموز 2023. ومع ذلك، ارتفعت القيمة التراكمية للشيكات المقاصّة بالعملة المحلية من 36174 مليار ليرة في تموز 2023 إلى 47579 مليار ليرة في تموز 2024. ولا يزال هذا الارتفاع في قيمة الشيكات اللبنانية يعكس نسبة أكبر من الشيكات اللبنانية المخصومة في السوق. وعليه، فمن أصل 123460 شيكاً مصدّراً إلى تموز 2024، بلغ عدد الشيكات "الفريش" 14534، لا تشكّل أكثر من 11.8 في المئة. مع العلم أنّ الهدف الأساسي من إصدار مصرف لبنان التعميم 165، هو السماح للمودعين بإجراء المدفوعات بالشيك اعتباراً من 1 تموز 2023، ما دامت حساباتهم إمّا بالدولار الجديد أو بالليرة.

مكافحة خجولة للاقتصاد النقدي وإهمال بقية المتطلّبات

إذاً، لا يزال المواطنون غير مشجّعين على استخدام البطاقات والشيكات بشكل كبير، والدليل بقاء أكثر من 50 في المئة من الاقتصاد نقدياً. وبالتالي، فإنّ التعميم 165 فقد زخمه، ولم يحقّق النتائج التي عقدت عليه قبل قرابة عام. ومن الجهة الأخرى يُظهر لبنان ضعفاً كبيراً في تصحيح أوجه القصور الأساسية التي حدّدها جدول "ملخّص الالتزام الفني – أوجه القصور الأساسية"، في كانون الأول الماضي، والتي أظهرت وقتذاك عدم التزام لبنان الكلّي 31 توصية لمجموعة العمل المالي من أصل 40. ويكمن القصور الأساسي في تطوير القانون 44/2015 المتعلّق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتطبيقه. خصوصاً من حيث إنشاء هيئة مستقلّة ذات طابع قضائي لدى مصرف لبنان تتمتّع بالشخصية المعنوية، غير خاضعة في ممارسة أعمالها لسلطة المصرف. واستيفاء القانون جميع متطلّبات تجريم تبييض الأموال على أساس اتفاقيتي "فيينا" و"باليرمو". وتفعيل العقوبات على تبييض الأموال باعتبارها جنائية وزيادة قيمة الغرامات على محوّلي الأموال من دون ترخيص. وتراخي نظام تبادل المعلومات بين الأجهزة القضائية والرقابية. هذا فضلاً عن عودة تصنيع المخدرات وتهريبها إلى الارتفاع من جديد، وهو موضوع يقلق الجهات الرقابية الدولية بسبب عدد الجرائم الهائل التي تضمّنتها مثل هذه العملية.