غطّى عدوان "تحت الحزام" الذي استمر يومين، منتصف الأسبوع المنصرم، على ثلاثة أحداث اقتصادية مفصلية. فلم يتوقّف اللبنانيون كثيراً عند الانعكاسات الاقتصادية للعدوان، ولم يتابعوا انعكاسات خفض أسعار الفائدة أميركياً وعالمياً، ولم يهتمّوا بمجريات التحقيق مع الحاكم السابق لمصرف لبنان، في واحد من أخطر الارتكابات المالية، إذ ليس مستبعداً أن يخرج منه مثل "الشعرة من العجين".

محلّياً، "سَمّم" العدوان الإسرائيلي الوضع الاقتصادي. الانعكاسات السلبية لم تتوقّف عند حدود التكاليف المادية المرتفعة التي تحمّلتها القطاعات الصحية، وتَجمُّد الوضع التجاري لأيام، إنما تعدّتها إلى ما هو أخطر بكثير.

اللايقين يشلّ الأسواق

الاقتصاد بمختلف مكوّناته غرق في الخوف المترافق مع اللايقين. وإن كان ثمة شيء يخشاه المستثمرون والمستهلكون، فهو فقدان القدرة على تحديد اتجاهات السوق على المديين المتوسط والبعيد. وصودف أن وجدتني في مقابلة مع أحد رجال الاعمال، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أتلقّى سيلاً من الأسئلة، بدلاً من تلقّي الإجابة عن تقييمه للوضع الاقتصادي: "هل تبقى الحرب محصورة بما عرف بقواعد الاشتباك أم تتوسّع لتشمل كلّ لبنان؟ ما هو مداها الزمني، وهل تطول إلى ما بعد الانتخابات الأميركية مطلع تشرين الثاني المقبل أم تنتهي بعد إعلان النتائج؟ هل من مفاجآت عنيفة جديدة تحملها الأيام المقبلة؟ وكيف سيكون الوضع إقليمياً لو توسّعت رقعة الصراع لتشمل إيران واليمن والعراق؟ هل يدخل لبنان في تسوية شاملة تتيح ملء الفراغ الرئاسي وتشكيل حكومة فاعلة، والبدء بتنفيذ الإصلاحات الجوهرية، التي يبدو أننا تناسيناها، أم يستمرّ الوضع على ما هو عليه صبيحة اليوم التالي؟". وما دامت الضبابية مسيطرة على الأجواء، فإنّ "الأسواق تقرأ اللاجواب بشكل سلبي"، يضيف رجل الأعمال.

كلّ هذا يبيّنه بشكل واضح "مؤشر مديري المشتريات" (PMI) الذي تصدره أكثر من جهة في لبنان، ومنها جمعية تجار بيروت و"بلوم بنك". المستثمرون يحجمون عن القدوم إلى لبنان. والمؤسسات القائمة لا تتوقف عن إنفاق الأموال على تطوير المشاريع والدخول في شراكات جديدة فحسب، إنّما يتركّز بحثها على اختيار مكان آخر لنقل أعمالها. يحفّز على ذلك تصميم المسؤولين على عدم الإصلاح. وهذا ما برز جلياً في موازنة 2025. إذ بالإضافة إلى تهالك البنى التحتية وعدم وجود أمن وأمان، أتت الموازنة مشبعة بالضرائب وفاقدة أيّ رؤية اقتصادية". أمّا على صعيد المستهلكين، فإنّ سلوكهم يُترجم سريعاً، تراجعاً في الاستهلاك. وهذا ما يرتد سلباً على المنتجين المحليين والتجار، الذين يخفّضون حجم الأعمال ويصرفون العمال إذا استمر الوضع طويلاً. وهو ما يؤدّي لاحقاً إلى ارتفاع معدّلات البطالة، ويقلّص الاستهلاك مجدداً. ويدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة. كذلك يتراجع توافد السياح والمغتربين، ويزداد عدد الإقفالات الكلية والجزئية في المطاعم والفنادق وشركات تأجير السيارات، وكلّ ما له علاقة بالقطاع الخدماتي.

محاكمة الحاكم!

محلّياً أيضاً، وبما يشبه النكسة، أعطت جلسة التحقيق الأخيرة مع الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة وبعض المتورطين، المحاميين ميكي تويني ومروان عيسى الخوري، إشارات قوية إلى إمكان تمييع الملف. فالقضاء استدعى المحاميين شاهديْن وليس مستجوبين. حضر تويني، وتغيّب عيسى الخوري بعذر صحي، ليحلّ وكيله مكانه. وتناقضت الإجابات مع إفادات الحاكم. وتقرّر إرجاء التحقيق مرة جديدة إلى الأسبوع المقبل. في الأثناء، استمرّ منع ممثلة الدولة، رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، القاضية هيلانة اسكندر، من حضور جلسات الاستجواب. وقدّم وكيل الحاكم سلامة طلب تخلية سبيل. وتفيد أوساط مطّلعة بأنّ ملف الفساد الكبير والمتشعّب والخطير في المصرف المركزي، حُصر باختلاس 42 مليون دولار، قد يتبيّن في النّهاية أنّها من المال الخاص. ولا تتطرّق التحقيقات بأيّ شكل من الأشكال إلى بقية الملفات مع المصارف والشركات المالية وتهريب الأموال والاستفادة من عمولات السندات وغيرها الكثير من قضايا الفساد. هذا عدا تحجّج المستجوبين بعدم إمكانية الشك في دوافع الحاكم وأهدافه هو الذي حوّل لهم الأموال في أعوام ما قبل الانهيار. فكيف يمكن الشك فيه وقد سمّته مختلف القوى السياسية "صمام الأمان". كذلك هو الذي يقرع جرس البورصات العالمية كدليل ثقة. هذا عدا اعتبار أنّ هذه العمليات مشروعة. خصوصاً أنّها تأتي من الحاكم شخصياً، ولم يكن هناك ما يستدعي الشكّ فيها. فهل يخرج الحاكم بريئاً في نهاية المطاف وتقفل كلّ الملفات المالية؟ وإن حصل مثل هذا فسيكون بمنزلة الضربة الثانية للثقة بلبنان ونظامه المالي والقضائي بعد الضربة الأولى المتمثلة في العدوان الإسرائيلي.

ارتفاع أسعار النفط والذهب

عالمياً، خفّض الاحتياطي الفيدرالي الاميركي أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة، أو ما يعني نصف في المئة. فتراجعت أسعار الفائدة في أميركا إلى ما بين 4.75 و 5 في المئة، منهياً بذلك دورة التشديد النقدي التي بدأت في آذار 2022. وتبعه في هذه الخطوة عدد كبير من المصارف المركزية في أنحاء العالم، ولا سيما الخليجية منها. وما يعنينا محلّياً في خفض أسعار الفائدة أميركياً وعالمياً هو تأثيرها على ارتفاع أسعار النفط والذهب. ومن دواعي الأسف أن الانعكاسات على لبنان ستكون متناقضة. فمن جهة يؤدي ارتفاع المعدن الأصفر إلى زيادة احتياطي مصرف لبنان الذي يملك حوالى 287 طناً من السبائك، ثلثاها في لبنان والثلث الآخر في قلعة "فورت نوكس" في الولايات المتحدة الأميركية. ومع صعود سعر أوقية الذهب إلى نحو 2600 دولار، ارتفعت قيمة احتياطي لبنان من الذهب إلى أكثر من 21.5 مليار دولار. كما زادت أصول الأفراد الذين تحوطوا بالذهب خلال السنوات الماضية. في المقابل تنذر أسعار النفط الآخذة في الارتفاع بمزيد من العجز في الميزان التجاري اللبناني، والضغط على القدرة الشرائية للأجور المنخفضة. خصوصاً أنّ استهلاك لبنان من المشتقّات النفطية يصل إلى نحو 4.5 مليون طن من البنزين والمازوت والغاز وكاز الطيران. وعليه، فإنّ الارتفاع في أسعار النفط عالمياً سيرتدّ بشكل سلبي على الأوضاع المعيشية داخلياً وبدرجة أقلّ على ثبات واستقرار سعر الصرف.

ووقت كان الرأي العام منهمكاً بالأحداث الأمنية الفائقة الخطورة "مرت مياه" الملفات الاقتصادية "بين أرجل" المواطنين بهدوء. وتبقى المنظومة متحكّمة باللعبة والمواطنون يدفعون الثمن، والاقتصاد يتمايل نحو الهاوية.