لم يُعطَ مشروع قانون موازنة العام 2025 حقّه من النقاش العلمي والموضوعي. فالمشروع بدا كوميض توارى سريعاً خلف سحب الدخان المتصاعد جنوباً بسبب الحرب، وشمالاً من مكبّات النفايات، وفي قلب العاصمة من إطارات العسكريين المتقاعدين المحتجّين. وبالتوازي مع هذه الحرائق الفعلية، "تشتعل النيران" في ملفات الحاكم السابق لمصرف لبنان قضائياً، ويكاد "رمادها المتطاير" يطمر الآمال بتفلّت الكثيرين من العقاب. وسط هذه الأجواء، ولدت موازنة العام السادس على الانهيار، متضخّمة بأكثر من مليار دولار عن سابقتها. والسؤال من أين ستُموّل الزيادات؟

لم يتضمّن مشروع موازنة العام 2025 زيادات كبيرة في الرسوم والضرائب، ولم يعتمد، كما يظهر، على تخفيض سعر الصرف. ومع هذا، رفعت "الموازنة" الإيرادات إلى حوالى 410129 مليار ليرة، مقارنة بـ 308000 مليار للعام 2024. الفرق بين الرقمين يعادل 102129 مليار ليرة، أو ما يوازي 1.1 مليار دولار تقريباً. فمن أين ستؤمن هذه الزيادة في ظلّ الشلل شبه التام في مختلف المرافق العامّة والخاصّة؟ ولأيّ قطاعات ستخصّص هذه الأموال إذا كانت كتلة الرواتب والأجور التي تشكّل الانفاق الأكبر، لم يلحقها أيّ تعديل يذكر؟

مصادر الإيرادات 

يُظهر تقرير مقتضب محوره المالية العامة ومشروع موازنة 2025، أنّ وزارة المال تعتمد على حامل ثلاث قوائم "tripod" لتأمين الزيادة في الواردات، وهي:

- النتائج الإيجابية المحققة من التحصيل في العام 2024، إذ تتوقّع أن تحقّق الإيرادات زيادة مقدارها نحو 23 في المئة عمّا كان مرتقباً في موازنة 2024. أي ما يوازي 16 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي. وقد حصلت الخزينة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي ما يقارب 82 في المئة من الإيرادات المتوقّعة سابقاً في موازنة 2024. كذلك تشهد الإيرادات ارتفاعاً متواصلاً مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي من 6 في المئة في العام 2022 إلى 13.5 في المئة في العام 2023، وصولاً إلى 16 في المئة هذا العام، إذ ستصل الإيرادات الفعلية إلى 4.2 مليار دولار، مقارنة بـ 3.4 مليار كانت متوقعة في الموازنة.

- الإصلاحات على صعيد المالية العامة، وهي تتضمّن بشكل أساسي: إعادة تفعيل الالتزام الضريبي. الحد من المضاربة غير الشرعية. إعادة بناء قدرات الإدارة الضريبية.

- تعزيز الجباية وتسهيل عملية الالتزام من خلال تطوير المكننة ودعم التصريح الألكتروني وجميع الخدمات الألكترونية.

هل يعني هذا عدم تضمين الموازنة ضرائب جديدة؟

ممّا يتبيّن من تقرير وزارة المال أنّ موازنة 2025 لم تعمد إلى زيادة الضرائب والرسوم "نظراً إلى الظروف القاهرة التي تمرّ بها البلاد، وتراجع العجلة الاقتصادية"، بحسب التقرير. وقد اقتصرت أهمّ الزيادات الضريبية على التالي:

- اقتطاع الضريبة من الرواتب بالعملات الأجنبية وتحويلها إلى الليرة اللبنانية عند الإيفاء على سعر الصرف 89500 ليرة (المادة 63).

- تعريف صاحب الحق الاقتصادي على نحو يتناسب مع التعريفات الدولية وتعديل الغرامات عند عدم التصريح (المادة 44).

- إدخال وسائل دفع متعددة لاستيفاء رسم الطابع المالي (المادة 67).

- تعديل رسم أعلى على الإيصالات بقيمة دولارين أو يورو للإيصالات بالعملة الأجنبية.

- تعديل رسم تسجيل سنوي بقيمة 200 ألف ليرة على عقود الإيجار.

- إخضاع المعاملات إلى نهاية 2006 لرسم انتقال لدى الدوائر العقارية بنسبة 1 في المئة.

- تعديل الرسوم الخاصة بالخدمات العقارية وبراءات الاختراع والعلامات التجارية التي لا تشمل ذوي الدخل المحدود.

- تصحيح الغرامات والرسوم الخاصة بتسجيل الملكية الأدبية والفنية.

زيادة الإيرادات بين الحقيقة والخيال

باستثناء الاعتماد على الزيادة المحققة في التحصيل بنسبة 23 في المئة خلال العام الجاري، فإنّ جميع الإجراءات المتبقية تبدو ضرباً من الخيال، نتيجة أربعة أسباب جوهرية، فضلًا عن بقية الأسباب الهامشية.

* استحالة تحقيق الإصلاح الضريبي في ظلّ اقتصاد نقدي يتجاوز 50 في المئة. وهذا ما يشجّع على استمرار التهرب الضريبي والتهريب الجمركي بنسب عالية جداً.

* فقدان المكلّفين الثقة بتسديد الضرائب المباشرة، على قلّتها، لاعتقادهم أنّها تصبّ في جيوب المنتفعين ولا تعود عليهم بأيّ نفع مباشر أو غير مباشر. فلا خدمات صحية ولا تعليمية ولا تقديمات اجتماعية ولا تعويضات نهاية خدمة مجزية ولا طرق وبنى تحتية صالحة للاستعمال.

* التوقع بعودة الإضرابات إلى القطاع العام والدوائر الحكومية والإدارات الرسمية نتيجة عدم إنصاف الموظفين وإصلاح رواتبهم. ومن الطبيعي أن يؤدّي إقفال الإدارات العامة أو عدم العمل كما ينبغي إلى تراجع التحصيل في نهاية المطاف. ولعلّ "النافعة" و"العقارية" خير دليل على ذلك.

* استمرار اعتماد الدولة على الضرائب غير المباشرة مثل الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية بشكل أساسي. وترتبط العائدات من هاتين الضريبتين بعلاقة طردية مع النمو الاقتصادي. فتتراجع العائدات كلّما تدنّت القدرة الشرائية للأجور وتراجع الاستهلاك، وتزداد بازديادهما.

الأرقام الطموحة للإيرادات في موازنة 2025، تبقى في إطار التوقعات المتفائلة. فهي من جهة تعتمد على الزيادة المحققة في التحصيل خلال العام الحالي. وتتكل من جهة أخرى على إعادة انتظام العمل في إدارات الدولة القادرة على تأمين الخدمات العامة الأساسية من أمن وغذاء وتعليم وطبابة. والمشكلة أنّ هذين العاملين يمكن أن يتغيّرا بلمحة بصر، في حال توسّع الحرب. فحتى نهاية تموز 2023، تاريخ اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية والقيادي في حزب الله فؤاد شكر، ظلّت الحرب تدور ضمن ما عرف بقواعد الاشتباك. ولم تؤثر في حركة المغتربين وتنفيذ بعض المشاريع الاستثمارية وإنفاق المواطنين. وهذا ما ساعد الدولة على تحصيل الإيرادات. أمّا من بعد هذا التاريخ، فقد فرغ البلد من السياح والمغتربين وتراجعت وتيرة الإنفاق وانخفض مؤشر ثقة المستهلك الذي يعكس وضع الأسواق. وعليه، فإنّ الإيجابية التي تبني عليها وزارة المال أرقامها عادت لا تصُح منذ مطلع آب الماضي، وقد تتراجع دراماتيكياً لو توسعت الحرب وأخذت منحى أكثر خطورة.

السخرية أنّ انهيار الوضع الاقتصادي قد يسمح للدولة بتحقيق الإيرادات المتوقعة. إذ سيعني حكماً تدهور سعر الصرف وعودة التضخم إلى الارتفاع بعدما وصل إلى 35.4 في المئة في نهاية تموز الماضي مقارنة بمعدل وسطي بلغ 222 في المئة في العام 2023. واعتماد الموازنة على سعر صرف السوق سيزيد إيراداتها حكماً نتيجة تراجع سعر الصرف. فهل تعتمد وزارة المال "خلسة" على هذا الافتراض؟