بالتزامن مع إبصار موازنة العام السادس على الانهيار النور، "تُدفن" حقوق متقاعدي الجامعة اللبنانية بعد العام 2019 في أعماق ظلمات الانهيار. موظفون أفنوا زهرة شبابهم في خدمة صرح تربوي، يبيعون في مرحلة تقاعدهم مقتنيات بيوتهم لسداد اشتراكات الضمان الاجتماعي. لم يوفّر الموظفون المتقاعدون مسؤولاً في الدولة إلّا زاروه خلال السنوات الماضية لعرض الظلم اللاحق بهم. نالوا التأييد المعنوي، مع الكثير من هزّات الرأس يميناً ويساراً، دليلاً على الاستنكار، ولم يحصلوا على تدبير فعلي واحد. فالمسؤولون يتعاملون مع مطالب مواطنيهم كـ "صبّابين الشاي"، كلّ واحد منهم يرمي المسؤولية على الآخر. فتضيع الحقوق في متاهات البحث العقيم.

يواجه الموظفون المتقاعدون من الجامعة اللبنانية بعد العام 2019 مشكلة مزدوجة: فمن جهة خسروا القيمة الشرائية لتعويضات نهاية الخدمة في ظلّ استمرار انهيار سعر الصرف، مثلهم مثل كلّ الموظفين. إلّا أنّهم أجبروا من جهة ثانية على الاشتراك في نظام التقاعد الاجتماعي الذي أصبح يكلّف في سنة واحدة، التعويض كلّه الذي حصل عليه الكثيرون منهم.

ارتفاع اشتراكات الضمان الاجتماعي

بعد رفع الحد الأدنى الرسمي للأجر إلى 18 مليون ليرة في 5 نيسان 2024 استناداً إلى المرسوم 13164، ارتفعت تلقائياً قيمة مساهمة المضمون المتقاعد إلى مليون و620 ألف ليرة شهرياً للضمان الاجتماعي. إذ تشكّل نسبة المساهمة 9 في المئة من الحدّ الأدنى الرسمي للأجور. هذه المعادلة النظرية تعني على أرض الواقع إلزام المضمون المتقاعد سداد 19 مليوناً و440 ألف ليرة سنوياً. والمفارقة أنّ هذا الرقم يعادل تعويض نهاية الخدمة لكثيرين تقاعدوا في مطلع العام 2023، إذ وصل سعر الصرف إلى نحو 140 ألف ليرة مقابل الدولار. وعليه، فإنّ كلّ التعويض الذي ناله المتقاعد لا يكفي لسداد الاشتراكات لمدة عام. وهذا ما دفع بلجنة المتابعة للموظفين المتقاعدين في الجامعة اللبنانية إلى المطالبة بإصلاح هذا الخلل. فـ"زارت رئيس الجامعة اللبنانية، ورئيس الاتحاد العمالي العام والنواب الـ 128 والقيادات الروحية للمطالبة بإيجاد حلّ لهذه المعضلة المتفاقمة"، بحسب رئيس اللجنة سامي ياسين. ولم تألُ جهداً لتصويب الأمور. خصوصاً أنّ أوضاع المتقاعدين العاجزين عن العمل، أو ممارسة أيّ مهنة في هذه السن، لا تسمح لهم بسداد مليون و620 ألف ليرة شهرياً. وبعضهم يبيع مقتنيات منزله لسداد هذا الاشتراك.

انهيار قيمة التعويضات فاقم الأزمة

المعاناة لم تقتصر على صعوبة أو شبه استحالة تأمين اشتراك الضمان في الكثير من الأحيان، إنّما سبقتها خسارة قيمة التعويضات مرتين، مرة لدى انهيار سعر الصرف، ومرة لدى اضطرار المتقاعدين إلى بيع شيك التعويض بقيمة أدنى من قيمته الحقيقة. وذلك بسبب رفض المصارف دفع الشيكات، واشتراط وضعها في الحساب وتجميدها 6 أشهر أو حتى أكثر، ومن ثم تقسيط المبلغ دفعات. وفي ظلّ الانهيار المستمر في سعر الصرف إذ كانت الليرة تتراجع إلى نحو 10 في المئة في اليوم الواحد، فضّل الكثيرون بيع شيكاتهم مع حسم خوفاً من خسارة كلّ قيمتها مع مرور الزمن واستمرار انهيار سعر الصرف.

رواتب متدنية ولا تقديمات

قبل ذلك، لم تكن رواتب الموظفين كبيرة، وكانت تقديماتهم شبه معدومة. خصوصاً إذا ما قورنت بما يناله أساتذة الجامعة اللبنانية الذين ينتسبون إلى صندوق التعاضد. فالموظفون لا ينالون إلاّ التقديمات الصحية التي يغطّيها الضمان الاجتماعي، والتي، للمناسبة، شهدت تراجعاً بنسبة فاقت 90 في المئة. ولا سيما في أول الأزمة. ولا يحصلون على تغطية لعلاج الأسنان أو على نظارات طبية. كذلك يحرمون من المنح المدرسية. وأتى تآكل التعويضات وفرض مساهمة كبيرة ليقضيا كلياً على تقاعدهم.

وعود ووعود

"خلال الأشهر الأخيرة زرنا كلّ القيادات السياسية والعمالية والروحية"، يقول ياسين. "فاتحة الزيادات كانت لرئيس الجامعة اللبنانية البروفيسور بسام بدران، الذي نصحنا بعرض القضية على النواب، وعلى رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، إذا أردنا أن نبدأ من مكان". وبـ "الفعل حملنا همّ نحو 300 موظف متقاعد إلى كلّ المسؤولين المعنيين"، يضيف بدران. وطلبنا إليهم المساعدة على تخفيض قيمة الاشتراك على الموظفين المتقاعدين أو تحمّله مناصفة بينهم وبين رب العمل، أي الجامعة اللبنانية". فأتت الأجوبة على الشكل التالي:

- الضمان الاجتماعي ردّ على سؤال هل بالإمكان خفض هذه الاشتراكات، بأنّ الأمر مستحيل. وجاوب على المراجعة الإدارية الاسترحامية بخصوص المذكرة الإعلامية الرقم 754 تاريخ 24 نيسان 2024، بما حرفيته "وفقاً للمقطع "ب" البند "5" من الفقرة السادسة من المادة التاسعة من قانون الضمان الاجتماعي، حدّد نسبة اشتراك المتقاعدين بالمعدّل العادي الرسمي المعمول به لفرع ضمان المرض والأمومة من دخل مقطوع يساوي الحدّ الأدنى الرسمي للأجر وقدم تمّ احتساب الاشتراكات وفقاً للقوانين والأنظمة المعمول بها. وبالتالي يتعذّر علينا الاستجابة لطلبكم.

رئيس الجامعة اللبنانية قال للمتقاعدين بالحرب "ليأمّنوا لي الأموال وأنا أدفعها".

وسبق أن أبدى النواب تعاطفهم مع المتقاعدين ووعدوا بحمل قضيتهم إلى أعلى المراجع المعنية. وفوجئ المتقاعدون قبل عدّة أيام، وقبل إبصار موازنة 2025 النور، بأنّ لقاء رئيس الحكومة مع رئيس الجامعة اقتصر على استعراض أوضاع صندوق التعاضد الخاص بالأساتذة، بحسب بيان مشترك. ولم يتطرّق البحث إلى أوضاعهم المأسوية.

يحاجج الموظفون المتقاعدون بأنّ المرسوم 13164 لا ينطبق عليهم كونهم موظفي قطاع عام وليس قطاع خاص. ولكن لو سلّمنا جدلاً بتطبيق المعايير نفسها عليهم لأنّهم ينتسبون إلى الضمان الاجتماعي، فهم عاجزون عن سداد الاشتراكات كونهم بلا مدخول، وتعويضاتهم لا تتجاوز قيمتها الفعلية 500 دولار. واقتراحهم أن تتحمّل الجامعة اللبنانية نصف هذه الاشتراكات لا يبدو تعجيزياً، فجلّ ما ستتحمّله عن 300 موظف لا يتجاوز 30 ألف دولار سنوياً. وهو مبلغ زهيد بالنسبة إلى موازنة الجامعة وحقوقها المهدورة، ولا سيما من فحوص الـ PCR التي أجرتها في زمن كورونا مقابل وعد بسداد ملايين الدولارات.

وقت يظهر أن بعض شرائح المجتمع اللبناني تكيّفت مع الأزمة، فإنّ هناك فئات، ولا سيما من الموظفين في القطاع العام، لم تعتد ولن تعتاد انهيار المداخيل، كما توقع سابقاً الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة حين قال "بكرا بيتعودوا". وفي حال عدم تصحيح هذا الخلل فإنّ هذه الفئات مهدّدة بالموت البطيء.