في غمرة ملاحقة أهوال الحرب والترويع من اللائحة الرمادية وروائح الفساد المالي التي تزكم الأنوف، تضيع هموم العمّال ومآسيهم الفظيعة. من هؤلاء العمّال، سائقو الشاحنات العمومية في مرفأ بيروت. "شوفيرية"، سحبتهم المدينة من الأرض والزرع، ورمتهم وراء المقود. يَصِلون الليل بالنهار ولا يقوون على تأمين قوت يومهم. عائلاتهم تنام من دون عشاء بالمعنى الحقيقي للعبارة، وليس المجازي. فأرباب عملهم يُبقون رواتبهم هزيلة بذريعة أنّ "الإكراميات تعوّض الفرق". يعتمدون على "كرم" الآخرين ولا يبالون بالتأمينات. ومن لا يعجبه "الباب بيضهّر جمل"، وهناك الآلاف ممّن يرون بـ "الشوفرة" وظيفة الأحلام.
هذا غيض من فيض ما قاله سائقو مرفأ بيروت خلال اعتصام أول من أمس في جوار المرفأ حيث عمد السائقون إلى الاعتصام قرب البوابتين (9) و(14)، قاطعين الطريق على الدخول والخروج من المرفأ للمطالبة بزيادة أجورهم وتحسين ظروف عملهم، وتطبيق القوانين. شارك في الاعتصام مع اللجنة التأسيسية لنقابة السائقين، الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان.
رواتب متهاوية ولا تقديمات
بعد أشهرٍ على تأجيل هذه الخطوة، من أجل عدم عرقلة إخراج البضائع من المرفأ في هذه الظروف غير المستقرّة اقتصادياً وأمنياً، لم يعد الوضع يحتمل. فكلما طال سكوتهم، تناسى أصحاب العمل مطالبهم التي لا تنحصر بزيادة الأجور، إنّما تتعدّاها إلى المطالبة بساعات العمل الإضافية، والتأمينات الصحية والتعليمية، والتصريح عن جميع السائقين للضمان الاجتماعي، وتطبيق قانوني السير والسلامة المهنية. "فمتوسط راتب السائق ما زال 300 دولار"، بحسب رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين كاسترو عبدالله. "لأنّ المكاتب وشركات النقل تتنافس من أجل الحصول على أكبر حصة سوقية، فتتشفّى بالسائقين. وتعمد الشركات من جهة إلى إبقاء أجور السائقين اللبنانيين متدنية، وتشغّل من جهة ثانية السائقين الأجانب الذين يرضون بالقليل ويعملون ساعات طويلة. وفي الحالتين، يدفع العامل اللبناني الثمن الأكبر، تراجعاً في المداخيل وفرص العمل".
عمد السائقون إلى الاعتصام قرب البوابتين (9) و(14)، قاطعين الطريق على الدخول والخروج من المرفأ للمطالبة بزيادة أجورهم وتحسين ظروف عملهم، وتطبيق القوانين.
السلامة المهنية شبه معدومة
ما إن تخبو مشكلة السائقين على المرفأ حتى تطلّ برأسها مجدّداً "بسبب تنصّل أصحاب العمل من الاتفاقات وتنكّرهم لظروف العمل"، بحسب عبدالله. "وإذا وضعنا الرواتب المتدنية، وعدم تأمين الخدمات الاجتماعية جانباً، فإنّ بعضاً من أصحاب المكاتب لا يبالي بالسلامة المهنية للعمال. فلا تقوم المكاتب بالصيانة اللازمة للشاحنات وتتهرب من تسديد الرسوم. وعدد كبير من الشاحنات لا يحقّ له السير لو أنّ هناك معاينة ميكانيكية. وتتهرّب من إجراء التأمينات الخاصة على الشاحنات والسائقين". يضاف إلى ذلك، عدم احتساب ساعات التوقف عن السير لمدة 6 ساعات في اليوم، 3 ساعات صباحاً ومثلها بعد الظهر، ومخالفتها قانون السير. فهذه المكاتب تشغّل السائقين الأجانب، الذين لا يحقّ لهم قيادة الشاحنات في لبنان. وهي تعمد إلى إحلال السائق اللبناني محل الأجنبي إذا حصل مع الثاني حادث سير. وذلك من أجل نيل تعويضات الضمان والتأمين وعدم تعرّضها هي والسائق للعقاب.
الضغوط المعيشية تخنق السائق اللبناني
في لبنان بين 400 و600 مكتب نقل تملكُ أكثر من 1500 شاحنة، وتشغّل 2000 سائق، حوالى 50 في المئة منهم من غير اللبنانيين، وتحديداً من السائقين السوريين. وتنقص أعداد السائقين اللبنانيين باستمرار بسبب تراجع الرواتب والتقديمات وقدومهم من أماكن بعيدة، خصوصاً من عكار - شمال لبنان، والبقاع. "ويواجه السائقون هذا العام معضلة كبيرة تتمثل في عجزهم عن تسجيل أولادهم في المدارس وتأمين التدفئة للشتاء"، نقلاً عما جرى من دردشات على هامش الاعتصام. فالارتفاع الكبير في أقساط المدارس الخاصة، والذي بلغ قرابة الضعفَيْن عن أقساط العام الماضي، وزيادة مختلف تكاليف المعيشية مقارنةً بالسنوات السابقة، من حيث فواتير المياه والكهرباء، دفعا السائقين إلى البحث عن فرص عمل أجدى، ولا سيّما أنّهم يأتون من مناطق بعيدة عن العاصمة.
مناشدة القوى الأمنية تطبيق قانون السير
الاعتصام الذي نفّذه السائقون كان "ناجحاً إلى حدّ ما"، بحسب عبدالله، "إذ تمّ التوصّل إلى اتفاق مع بعض أصحاب العمل على مضاعفة الرواتب ورفعها إلى ما بين 600 و800 دولار". "من دون أن يعمّم القرار على الجميع نظراً لغياب نقابة مكاتب النقل عن الحضور". وبرأي عبدالله تكمن المشكلة في "اعتماد أصحاب العمل على الحماية الأمنية، التي توضع في وجه المعتصمين وأصحاب الحقوق لمنع إقفال المرفأ، لما لهذا المرفق العام من أهمية إستراتيجية. في حين ليس للسائقين مكان آخر للاعتصام يؤلم أصحاب المكاتب والدولة على السواء، سوى المرفأ، لإيصال صرخاتهم ومعاناتهم. فيما الشكاوى الفردية لا تأخذ طريقها إلى القضاء في الكثير من المرات لصعوبة دخول المباشرين لتبليغ المدّعى عليهم في المرفأ. وتطلّب دخولهم أذونات خاصة من الأمن العام. وعليه، تستمر المشكلات في التوالد من رحم الأزمات". ويطالب عبدالله القوى الأمنية بـ "التشدّد في تطبيق قانون السير أقلّه، وملاحقة الشاحنات التي يقودها غير لبنانيين وتوقيفها. الأمر الذي يدفع أصحاب المكاتب إلى إعادة السائقين اللبنانيين وتحسين ظروفهم المعيشية".
سائقو الشاحنات لا يعملون في ظروف صعبة فحسب، بل هم أيضاً يسيرون "إجر بالقبر، وإجر بالحبس"، على حد وصف عبدالله، ولعلّ أكثر ما يقهرهم هو أنّ هذه المخاطرة تأتي من دون أيّ مردود مجزٍ، أي علـ "البلاش".