لن تطول المدّة كثيراً حتى تبدأ خيوط "اللعبة" المالية بالتقطّع واحداً بعد آخر. النتيجة الحتمية ستكون سقوط "الدمية" التي أبهرت على مدى العقود الثلاثة الماضية لبنان والعالم بفنونها النقدية، إن لم يكن السقوط فيزيائياً، فمعنوياً على أقلّ تقدير. وبحسب الترجيحات، فإنّ "اليد العليا" التي تحكّمت باللعبة وسيطرت عليها، لن تُمس. لكنها من المؤكّد سَتفقد الأداة التي أمّنت عروضها الأموال الطائلة.
ارتخاء خيوط اللعبة، الذي عبّر عنه توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان على ذمّة التحقيق، يعود إلى تقديم مصرف لبنان أخيراً وثائق ومعلومات عن أسماء أشخاصٍ، أو مستفيدين نهائيين من "حساب الاستشارات" بقيمة 111 مليون دولار أميركي في مصرف لبنان. هذا الحساب، كان التدقيق الجنائي لشركة "ألفاريز آند مارسال" أول من كشف عنه. إذ ورد في التقرير النهائي: "بين 22 نيسان 2015 و 9 أيلول 2019، أُجري 18 تحويل سويفت إضافياً، حُسمت من "حساب الاستشارات"، وأُضيفت إلى ستة مصارف لبنانية بمبلغ إجمالي مقداره 149،985،971،000 ليرة لبنانية (99،093،057 دولاراً أمريكياً). وتمّ تحويل 12 مليون دولار إلى مصرف HSBC، يعتقد أنّها ذهبت إلى شركة "فوري".
إخفاء أسماء المستفيدين النهائيين أثناء ولاية سلامة
وقتذاك، لم تتمكّن "ألفاريز آند مارسال"، كما ورد في تقريرها، من معرفة "اسم المستفيد النهائي أو حساب التحويلات الصادرة من حساب الاستشارات. إذ أزال مصرف لبنان تفاصيل المستفيد من مقتطفات "سويفت"، وحقول سرد المعاملات من مقتطفات الخدمات المصرفية الأساسية المقدمة إلى الشركة، متذرّعاً بقانون السرية المصرفية". المستغرب أنّ شركة التدقيق المكلّفة من الحكومة لم تعترض. فيما اتّخذ من كلّفها موقف المتفرّج برغم وجود قانون تعديل السرية المصرفية الرقم 306/2022، الذي منع المصارف من التذرّع بسرّ المهنة، ملزماً إيّاها بتقديم جميع المعلومات المطلوبة، فور تلقّيها طلباً من الهيئات القضائية والرقابية وهيئة التحقيق الخاصة. إذ من الممكن أن تطلب هذه الجهات معلومات محمية بالسرية المصرفية من دون تحديد حساب معيّن أو عميل معيّن. على الرغم من ذلك تحجّج مصرف لبنان في تلك الفترة بالمادة 150 من قانون النقد والتسليف التي تجرّد مراقبي المصرف المركزي من الحق في إلزام مديري المصارف بإفشاء أسماء عملائهم، باستثناء أصحاب الحسابات المدينة، كما لا يحقّ لهم الاتصال بأيّ شخص ما عدا مدير المصرف المسؤول.
الكشف عن أسماء
مع انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة في تموز 2023، وتولّي وسيم منصوري الحاكمية بالإنابة، أبدى جدّية بالتعاون مع القضاء. وقد سلْم، بحسب المعلومات، إلى القضاء المستندات التي نصّ عليها تقرير "الفاريز آند مارسال" تباعاً منذ أيلول 2023. ومن المرجّح أن يكون في عداد المستندات ملف أسماء كلّ المستفيدين من "حساب الاستشارات" أو بعضهم بعدما ظلّوا مجهولين وقتاً طويلاً. وهذا ما سمح للقضاء بإعادة جمع خيوط اللعبة واستدعاء الحاكم رياض سلامة للتحقيق معه، ومن ثمّ توقيفه.
الخطوات القضائية
الخطوات التي قام بها القضاء بدأت باستدعاء سلامة والتحقيق معه من قبل المدعي العام التمييزي القاضي جمال الحجار وتوقيفه على ذمّة التحقيق، ثمّ ختم الحجار التحقيقات الأولية، وأحال سلامة موقوفاً على النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، الذي ادّعى على سلامة بجرائم اختلاس الأموال العامة والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، وأحاله على قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي. ومن المنتظر أن يستجوب القاضي حلاوي سلامة بحضور فريق الدفاع بين اليوم والاثنين المقبل، بحسب ما رشح من معلومات. وفي ضوء التحقيق، يتخذ القرار بتوقيفه، أو تركه بسند إقامة.
ستحمي المنظومة نفسها ويخرج الجميع رابحين بطريقة أو بأخرى.
القطبة المخفية لم تفكّ بعد
إلى الساعة، لم تؤكّد المصادر القضائية أو تنفي أنّ سبب التحقيق مع رياض سلامة يعود إلى اختلاس 42 مليون دولار من أصل 111 مليوناً تضمّنها حساب الاستشارات، وذهبت إلى أشخاص وكيانات اقتصادية. ثمّة معلومات تفيد بأنّه في سياق عملية التدقيق الجنائي الإضافي، تبيّن تقاطع بين أرقام حسابات تعود إلى شركات مالية مع حساب الاستشارات المذكورة آنفاً. ومن المرجّح أن يكون الحاكم السابق قد حوّل إلى حساب مستشارين مبالغ مالية، من ضمن ما حُوِّل من حسابات الاستشارات، ثم عاود هؤلاء تحويلها إلى حساباته المباشرة أو غير المباشرة في الخارج. وهو الأمر الذي ستكشف عنه الحوالات إلى المصارف الخارجية بعد تحديد الأسماء. وفي حال التأكّد، فإنّ التهم ستنتقل من الاختلاس إلى تبييض الأموال. وستؤدّي إلى ملاحقة كلّ من سهّل هذه العملية من المستشارين المزعومين. ذلك أنّ قانون تبييض الأموال 44/2015 يحمّل في مادته الثانية المسؤولية للمتدخّلين والمسهّلين، وتنصّ المادة الثالثة على تطبيق العقوبة نفسها على الفاعل والمشترك والمسهّل، بالسجن بين 3 و7 سنوات.
معاقبة سلامة أم حمايته؟
المحاكمة والسجن في لبنان للحاكم إذا ثبتت إدانته، قد تحولان دون المعاقبة في الخارج على بقية الجرائم المالية المتهم بها. ويبقى هذا الأمر، بحسب متابعين للملف "أهون الشرّين"، بالنّسبة إلى سلامة. و"لن يكون ما بقي من العمر أكثر مما مضى". لكن ما مصير بقية الأسماء؟ وهل حوّل الحاكم مبلغ 111 مليون دولار كاملاً إلى حسابه أم هناك مستفيدون آخرون؟ من هم؟ وما هي علاقتهم بسلامة؟ ولماذا حُوّلت إليهم المبالغ؟ من المؤكد أنّ التوسّع في التحقيق يكشف جميع هذه التفاصيل. ويبقى السؤال هل يُرفع الغطاء عن الأسماء المتورّطة إذا كانت نافذة جداً أم لا؟ وهل يفصح سلامة بنفسه عن بقية الأسماء من المنظومة الحامية، خصوصاً أنّه قال في أكثر من مناسبة: "إذا وقعت ما بوقع لوحدي!"، بحسب ما ينقل بعض المطلعين؟
الجواب المنطقي عن هذه التساؤلات هو أنّ سلامة سيرضى بتحمّل المسؤولية. إمّا لأنّه لم يبقَ هناك ما يخسره. وإمّا لكونه مهدّداً. وفي جميع الحالات، ستحمي المنظومة نفسها ويخرج الجميع رابحين بطريقة أو بأخرى. وإنّ غداً لناظره قريب.