وقت بدت السحوبات النقدية من الحسابات المصرفية عالقة في "بوز قنينة" التعميمين 158 و166، استمر الارتفاع المطرد في أسعار مختلف السلع والخدمات. فوفقاً للإحصاء المركزي زاد مؤشر أسعار الاستهلاك لشهر تموز بنسبة 2 في المئة مقارنة بحزيران. فيما زادت الأسعار بين تموز 2023 وتموز الماضي بنسبة 35.37 في المئة. الأمر الذي دفع بالنقابات إلى المطالبة بتوسيع الاستفادة من الودائع المحتجزة للمساعدة في تمويل الفاتورة الخدماتية من جهة، ومن دون أن يشكّل الأمر ضغطاً على سعر الصرف من جهة أخرى.
طروحات لاستخدام الودائع
الرئيس السابق لنقابة موظّفي المصارف أسد خوري اقترح طرحاً مرحلياً يسمح باستخدام الودائع لتسديد المتوجّبات الضريبية من رسوم مالية وبلدية وعقارية وتسجيل السيارات ودفع الميكانيك... على أن تُحوّل الدولارات إلى لولار وفقاً لسعر صرف السوق. وبهذه الطريقة "يوفّر المودعون على أنفسهم أكلافاً مالية كبيرة، يضطرون راهناً إلى اقتطاعها من مصادر دخلهم المحدودة"، برأي خوري. "وترتفع العائدات المالية بشكل كبير نتيجة إمكانية تسديد المودعين متوجباتهم الحالية والمتأخّرة تجاه الدولة من الأموال المحتجزة والعصية على الاستخدام. وتمنع هذه الطريقة تسييل الأموال واستخدامها نقداً مع كلّ ما تولّده من مخاطر على تعزيز الاقتصاد النقدي والضغط على سعر الصرف". ويخرج الجميع رابحاً.
على غرار هذا الطرح، طالب رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر الدولة بتمكين الأهالي من دفع الأقساط المدرسية من الودائع المجمّدة في المصارف. معتبراً في بيان أنّه "مع اقتراب بدء العام الدراسي والجامعي الجديد ومع الزيادات المهولة على الأقساط في المدارس والجامعات الخاصة التي تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 50 في المئة. ومع عدم قدرة وزارة التربية أو لجان الأهل أو منظمات المجتمع المدني على معالجة هذه الزيادات، لا بدّ من التوجّه إلى الدولة اللبنانية الراعية الاجتماعية الأولى للمواطنين حتى تبادر إلى تمكين الأهالي من دفع الأقساط المدرسية من الودائع المجمدة والمصادرة في المصارف والتي تحولت أرقاماً بلا معنى على دفاتر التوفير".
إيرادات دفترية
هذه الاقتراحات التي تدور في فلك ليلرة الودائع ونقلها من حسابات الأفراد إلى حسابات الدولة بشكل مباشر، أو غير مباشر عبر وضعها في حسابات المؤسسات الخاصة، لتعود الأخيرة وتسدّد بها ضرائبها ورسومها، "لديها حسناتها وسيئاتها"، برأي الباحثة والمستشارة المالية مارغريتا الشامي. "ففي حين تعمل هذه الآلية على تخفيف الأعباء عن كاهل المودعين بعد 5 سنوات من الأزمة، وعدم إيجاد حلّ جدّي وعادل لهذه الإشكالية، تبقى الضرائب دفترية. بمعنى أنّ الأموال ستعلق في حسابات الدولة من دون القدرة على استعمالها كإيرادات لتمويل الخدمات العامة وتحفيز النمو الاقتصادي". لكن من الممكن أن تشكّل مثل هذه الطروحات "حلّاً جيداً، فيما لو أتت في إطار خطة إستراتيجية كاملة توضح التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد"، برأي الشامي.
القطبة المخفية
الطروحات العديدة لاستعمال الودائع التي تختلف بالشكل وتتلاقى بالمضمون تتضمّن "قطبة مخفية"، بحسب المستشار المالي الدكتور غسان شماس. وإن كانت نابعة من نية طيبة وفكر حريص على المودعين والاقتصاد، فهي "تعني السطو على الملكية الخاصة وتحويلها من شكل إلى آخر، حتّى ولو سلّمنا جدلاً أنّها ستحوّل الدولارات إلى ليرات على سعر صرف السوق". وتختلف هذه الآلية جوهرياً عن تسديد ثمن الفيول العراقي بالليرة على سعر صرف السوق. ذلك أنّ "هذه الطريقة تعني الاستيراد بالليرة، وهو أمر مفيد. في حين أنّ ليلرة الودائع لتسديد المتوجبات العامّة تهدف إلى تعويم المصارف، بعد إلباسها حُلّة القضايا الاجتماعية". وهي تتقاطع مع مسوّدة مشروع خطّة الأخير لإعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي، التي تعمل أيضاً على تعويم المصارف خلافاً للآليات الطبيعية. "وكلّ هذه المشاريع سوف تبوء بفشل ذريع، ليس لسبب "ديماغوجي"، إنّما لتعارضها مع القوانين اللبنانية والقوانين الطبيعية. فلا أحد يملك القدرة على مصادرة جماعية لأملاك المودعين وأموالهم".
بدائل للاستفادة من الودائع
تفرض الحقيقة على الجميع الاعتراف بأنّه من أصل ودائع بقيمة تقارب 90 مليار دولار، لم يتبقَ إلّا قرابة 8 مليارات كتوظيفات إلزامية في المصرف المركزي. وعليه، لم يبقَ لهذه الودائع وجود فيزيائي. و"إعادة تكوينها"، أو إرجاع القسم الأكبر منها بشكل عادل ومنصف، تتطلّب أولاً "التنازل عن شرط تبرير مصادر هذه الأموال، وتقسيمها مؤهلة وغير مؤهلة"، برأي شماس. وإن كان لا بد من التمييز بين الودائع، فمن المنطقي الفصل بين الودائع المشكّلة قبل 17 تشرين الأول 2019، وما بعده. مع الحرص على حماية الملكية الفردية".
وضع اليد على المصارف
إرجاع الودائع، أو الجزء الأكبر منها، يتطلّب، بحسب شماس "وضع الدولة يدها على المصارف، كلّ المصارف، ومصادرة رخصها، لأنّها خالفت القوانين وتسببت بالانهيار العظيم. ومن ثم تجري الدولة عملية "تخارج" بين موجودات المصارف ومطلوباتها. المصارف التي يتبيّن أنّ موجوداتها أكبر من التزاماتها تكون قابلة للحياة والاستمرار، فيما تشطب العاجزة، وتتحمل تسديد ديونها أي الودائع. ومن ثم تطرح الدولة رخصاً مصرفية للبيع بالمزاد العلني، على أن تحدد عدد المصارف ونوعها الذي يناسب الاقتصاد بداية. فتقسم الرخص بين مصارف تجارية وأعمال واستثمارية وتنموية وإسكانية... ". هذه الطريقة تؤمّن بحسب شماس "مردوداً مالياً للدولة، يضاف إلى ما تحصّله من الموجودات المصادرة، وتمكّنها من التعويض على أكبر عدد من المودعين من خلال تحويل الودائع إلى perpetual bond، أو سندات دائمة لمدة محددة بعدد من السنوات. ويمكن أن تدفع الدولة فائدة بنسب قليلة على قيمة السند ابتداء من السنة الثالثة. وتتزايد قيمة التعويض عن السند كلّما زاد عدد السنوات بحيث يحتسب المردود تصاعدياً حتى الوصول إلى 100 في المئة من قيمة السند في السنة الأخيرة. ويستخدم هذا السند، كسند دفع. وبالتالي، تحوّل الأموال إلى غير نقدية أو "ديجيتال".
عدا ذلك، يعتقد شماس أنّ كلّ الحلول تهدف إلى تعويم المصارف على حساب المودعين. مع العلم أنّه يجب استثناء المودعين من الدعوة إلى وليمة إعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي، وأن تكون الدولة وسيطاً تتحمل المسؤولية كاملة عمّا آلت إليه الأمور.