تعتمد السلطة المالية "أسلوب النعامة" لدى التعاطي مع المكلّفين عموماً والمودعين خصوصاً. فقد نفت أن تكون لأسعار الصرف التي ستعتمدها في تسجيل قيودها المحاسبية أيّة علاقة بقيم حسابات المودعين لدى المصارف اللبنانية. وعلى ما يبدو، تعتقد وزارة المال أنّ دفن رأس المشكلة في رمل البيانات الإعلامية، كفيل بإخفاء حجمها الهائل والمفضوح.
يظهر الجدول أعلاه الوارد في القرار الرقم (9) الصادر عن مجلس الوزراء، أنّ وزارة المال ميّزت بين سعرين للصرف من تاريخ 14 شباط 2024 إلى حين صدور قرار جديد. السعر الأول هو الدولار النّقدي بقيمة 89500 ليرة الذي ستعتمده لتسجيل قيودها المحاسبية. والثاني الدولار المحلّي بقيمة 15 ألف ليرة. وهكذا لا يزال الدولار المحلّي الذي حلّ منذ شباط 2024 مكان سعر الصرف البائد 1507.5 يعتبر سعر الصرف الرسمي. وعلى أساسه، تتحدد قيمة السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية من الحسابات الدولارية. خصوصاً في ظلّ عدم صدور أيّ تعميم من مصرف لبنان مكان التعميم 151 يحدّد سعر صرف استثنائياً أو دائماً للسحوبات من الحسابات بالعملة الأجنبية.
مراجعة أمام الشورى
قرار وزارة المال الذي أخذ علماً به مجلس الوزراء في جلسته بتاريخ 14 آب 2024، أو وافق عليه بمعنى أوضح، تعرّض للطعن في مجلس شورى الدولة لتكريسه سعر صرف مجحفاً بحقّ المودعين. وقد تقدم المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر بالأصالة عن نفسه، ووكالته عن الإعلامي ماريو عبود، والدكتور حكمت فايز مطر، والمحامي شربل شبير، والمدير السابق في مصرف لبنان ياسر محمد جمول، بـ "مراجعة إبطال تتضمّن طلب اتّخاذ القرار العاجل في غرفة المذاكرة يقضي بوقف التنفيذ". وقد استند الطعن إلى أنّ قرار وزارة المال ينزع الحماية عن حقوق المودعين، ويخالف المادتين 9 و10 من المرسوم الاشتراعي الرقم 120 لعام 1983، الذي ألزم ببيان سعر الصرف من خلال السوق الحرة والمحددّة بردهة بورصة بيروت. أضف أنّ القرار يتناقض مع انتفاء إمكانية وزارة المال إلزام المصارف بفتح دفتري حسابات خلافاً لأحكام قانون التجارة، واحتساب سعر الصرف ابتداء من شباط 2024 على أساس سعر السوق، وهذا ما يعزز حكم الفساد. ول اسيّما أنّه لا يجوز إعادة الوديعة إلا بعملتها. ولأنّ المصارف باشرت تطبيق سعر الصرف 15 ألف ليرة. وهذا ما يتناقض مع مبادئ دستورية، منها المساواة والعدالة والمعاملة بالمثل وعدم وجوب التمييز والعديد من الأسباب القانونية الأخرى.
المراجعة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة
المراجعة المذكورة آنفاً ليست الأولى التي يتقدم بها ضاهر، من المؤكد أنهّا لن تكون الأخيرة، فقد سبق أن قدّم طعناً بالتعميم الرقم 151 و158 والتعميم الرقم 165 وقرار الحكومة اللبنانية الرقم 22 وحجزه الاحتياطي الإلزامي. وللتذكير، فإنّ مجلس شورى الدولة قرّر في حزيران 2021 وقف تنفيذ التعميم 151 الذي يحدّد سعر صرف السحوبات من حسابات الدولار بـ 3900 ليرة. وذلك لأنّ التعميم يخضع المودعين لـ"هيركات" مجحف، ويخالف قانون النقد والتسليف، وقانون الموجبات والعقود. والأهم أنّه لا يعيد الوديعة بعملتها الأصلية. وخلافاً لأصول العمل القضائي ومبدأ الفصل بين السلطات، أجهضت التدخّلات السياسية قرار الشورى. إذ جمع رئيس الجمهورية ميشال عون، رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي إلياس مع حاكم المركزي رياض سلامة في بعبدا، وتقرّر أنّ مصرف لبنان لم يٌبلّغ بالقرار المذكور للتنفيذ، وأنّ المصرف تقدّم بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة تضمنت عناصر إضافية جديدة لم تكن واردة في الملف. والسبب الحقيقي الكامن وراء تعليق العمل بالقرار، كان عودة المصارف، بغمزة من سلامة، إلى اعتماد سعر 1500 ليرة للسحوبات لكون الأخير هو السعر الوحيد الرسمي، وسعر السوق يبلغ في ذلك الوقت 15 ألف ليرة. فيما المطلوب كان إعادة الودائع بالدولار بالعملة التي وضعت فيها، أي الدولار تنفيذاً لقانون الموجبات والعقود. ولكن هذا لم يحصل.
الفرق بين المراجعة الحالية والمراجعات السابقة
تفيد مصادر متابعة بأنّ الفرق الحاصل اليوم هو أنّ المراجعة لم يتقدم بها المحامي منفرداً، بل بأصالته عن نفسه كصاحب حق مصرفي ووكالته عن مودعين يعملون في الشأن العام، وبعضهم كان فاعلاً في الحقل المصرفي. وترمي هذه المراجعات إلى إعادة الانتظام المالي العام للدولة وفرض سلطة القانون مع المحاسبة ومنع رفد الفساد بأدوات جديدة. وتحاول السلطة أن تحيد عن ذلك بهدف وأد المحاسبة وإبعاد أحكام القانون وتحميل الموبقات لغير من تسبّب بها، لا سيما أنّ الاستمرار في نهج هذه السلطة يرمي في أبعاده إلى تصفير العجز القائم من حساب الشعب، مع تمكين المرتكبين من رفع ربحهم ورفده بأدوات جديدة. وعليه، لا يمكن أن نتجاهل هنا أنّ لبنان مهدّد بالقائمة الرمادية، والسبب يعود إلى ضرب الثقة الائتمانية، العنصر الفعال الذي يقتضي حمايته لمنع الاقتصاد النقدي.
ردّ وزارة المال والردّ عليه
بناء على ما تقدّم، أصدرت الوزارة بياناً توضيحياً جاء فيه "منعاً لأيّ لغط كان ما زال يقع فيه البعض حيال قرار مجلس الوزراء، والمتعلّق بعرض وزارة المال اعتماد صرف الدولار الأميركي من أجل تسجيل الواردات والنفقات في حسابات الخزينة فقط وإصدار البيانات المالية، تؤكّد المالية لكلّ مهتمّ أنّ أسعار الصرف الواردة في قرار مجلس الوزراء الرقم 9 تاريخ 14/8/2024 تتعلّق فقط بقيم القيود المحاسبية للدولة اللبنانية وليس لها أيّ علاقة بقيم حسابات المودعين لدى المصارف اللبنانية".
هذا الردّ لم يقنع المتقدمين بالدّعوى إذ اعتبر الإعلامي ماريو عبود في تغريدة على منصة (X) أنّ القرار المطعون فيه أورد فقرة كاملة (10) عن سحوبات الودائع، سنداً للتعاميم غير المشروعة الصادرة عن المركزي. مؤكّداً أمرين:
- عملاً بمبدأ موازاة الصيغ والإجراءات فإنّ الرجوع عن القرار المعيوب لا يكون إلّا بقرار مماثل.
- المادة 6 من قانون التجارة تمنع مسك دفتَرَي حسابات.
إشكالية سعر الصرف منذ بدء الانهيار
إلى اليوم، فشلت كلّ المحاولات باعتماد سعر صرف السوق لسحب الودائع من حسابات العملة الأجنبية. السبب المعلن هو الخشية من تضخم الكتلة النقدية بالليرة وتشكيلها ضغطاً على سعر الصرف. خصوصاً أنّ كلّ ليرة تسحب من الودائع ستحوّل إلى الدولار، إمّا بهدف الاستهلاك وإمّا الادّخار، نتيجة الخشية من تدهور سعر الصرف. إلّا أنّ هذه المعضلة يمكن حلّها بسهولة من خلال تخفيض سقف السحوبات إلى نحو 24 مليون ليرة شهرياً، تعادل الكمية نفسها من الليرات التي كان يتقاضاها المودعون من خلال التعميم 151 إلى الأول من العام الجاري. وبهذه الطريقة يحصل المودعون شهرياً على 268 دولاراً من دون أيّ اقتطاع. إلّا أنّ مثل هذه الخطوة تتعارض في المضمون مع هدفين خفيين أو غير معلنين: - الأول، أنّ سحب الودائع بقيمها الحقيقية، ولو بسقوف منخفضة، يكبّد المصارف خسائر كبيرة ويحرمها من القدرة على استنفاد المطلوبات عليها أو تقليصها. وقد نجحت هذه الطريقة مع طرائق أخرى في تخفيض حجم الودائع بالدولار من نحو 138 ملياراً قبل الانهيار إلى نحو 90 ملياراً راهناً.
- الثانية، يتعارض هذا الإجراء مع ما تنوي الحكومة اعتماده في "مشروع خطة إعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي". إذ تنوي تسديد الودائع التي تراوح بين 100 و500 ألف دولار بالليرة اللبنانية. فتسدد الودائع المؤهلة بالليرة على أساس سعر صرف يبلغ 45 في المئة من سعر صرف السوق، أي 40 ألف ليرة للدولار بمحاكاة لسعر صرف اليوم. فيما تسدد الودائع غير المؤهلة بالليرة على سعر صرف يبلغ 30 في المئة من سعر السوق، أي 26 ألف ليرة بمحاكاة سعر الصرف الحالي. وتعتزم الحكومة تسديد نحو 1.9 مليار دولار بالليرة بهذه الطريقة سنوياً على مدى 11 عاماً.
في الوقت الذي كان يجب أن تردّ وزارة المال في القضاء ردّت في الإعلام، وهو ما اعتبرته المصادر نتيجة ضعف حجتها وعجزها عن الدفاع عن قرارها. وفي انتظار قرار "الشورى"، تبقى الأنظار معلّقة بما ستحمله الأيام المقبلة من تغيّرات على سعر الصرف. خصوصاً في ظلّ ازدياد الدراسات التي تحذّر من انهيار وشيك.