يُعدّ التهرب الضريبي من أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد اللبناني في ظلّ الأزمات المتعدّدة التي تمرّ بها البلاد. ويُعرّف بأنّه محاولة الأفراد والشركات تجنّب دفع الضرائب المستحقّة بطرائق غير قانونية، وهذا ما يؤدّي إلى فقدان الدولة مصدراً مهماً من الإيرادات التي تحتاج إليها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتنمية المستدامة. ومنذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في العام 2019، شرّعت معابر التهريب أبوابها، بينما وجد كثيرون في أزمة تقلّب سعر الصرف، فرصة على طبق من فضّة للتهرّب الضريبي، وعدم التصريح عن الأرباح ومقدار المداخيل.  

ووسط غياب الأرقام التي تسمح برصد التهرّب الضريبي في لبنان، يستند معظم الخبراء والصحافيين الاقتصاديين إلى تقرير صادر عن بنك عودة، يعود للعام 2018، أي قبل سنة واحدة من الانهيار الاقتصادي، يبيّن أنّ كلفة التهريب والتهرّب الضريبي في لبنان بلغت 4,5 مليارات دولار، وهو مبلغ كان يمكن أن يوفّر تغطية طبّية شاملة للبنانيين المقيمين. ولا شكّ في أنّ هذا الرقم قد تضاعف مع تفاقم الأزمة الاقتصادية. أمّا حجم التبادلات النّقدية فتخطّى نسبة الـ 50 في المئة نتيجة انعدام الثّقة بالنظام المالي اللبناني. وهو ما أثّر سلبًا في سمعة لبنان في الخارج. 

واعتبر البنك الدولي في تقرير المرصد الاقتصادي للبنان، الصادر في العام 2023، بعنوان "التطبيع مع الأزمة ليس طريقاً للاستقرار" أنّ "الاقتصاد النقدي المنتشر والمتزايد بالدولار يشكّل عائقًا رئيسيًا أمام التعافي الاقتصادي. فالاقتصاد النقدي لا يهدّد بالمساس بفعالية السياسة المالية والنقدية فحسب، بل يزيد أيضًا من مخاطر غسل الأموال، ويزيد من النشاط الاقتصادي غير الشرعي، ويحفّز على المزيد من التهرّب الضريبي". وكان قد قدّر تقرير البنك الدولي الاقتصاد النقدي "المدولر" في لبنان بنحو 9.9 مليار دولار أو 45.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. 

بالأرقام  

في هذا الإطار، يشرح أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، خليل جبارة، لـ "الصفا نيوز" أنّه "من الصعب قياس عبء التهرّب الضريبي بشكل دقيق. لذلك يتمّ الاعتماد على التقديرات"، مقدرًا "التهرّب الضريبي في لبنان بملياري دولار أو 3.6 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي". 

ويضيف جبارة "بحسب بيانات صندوق النقد الدولي، انخفضت الإيرادات الضريبية بين أعوام 2019 و2021 إلى أكثر من النصف"، متابعاً "قبل الأزمة الاقتصادية عام 2019، كانت نسبة الضرائب إلى الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان 15.5 في المئة وهذا المعدّل هو الأدنى بين دول المنطقة مثل الأردن ومصر وغيرهما". 

وقال الخبير الاقتصادي أنطوان فرح لـ "الصفا نيوز" إنّ "التهرّب الضريبي ليس وليد الأزمة المالية والنقدية التي ضربت لبنان في العام 2019، بل هو مسألة قديمة، ومشكلة مزمنة. ونسب التهرّب الضريبي قد ترتفع وتنخفض حسب الظروف. ولا أرقام دقيقة بإمكانها تحديد حجم التهرب الضريبي، والدخول في الأرقام هو دخول في متاهات غير واقعية. من المؤكّد أنّ نسبة التهرّب الضريبي ارتفعت كثيراً عمّا كانت عليه قبل الأزمة، وتجاوزت الـ50 في المئة. إذا كانت إيرادات الدولة اللبنانية الضريبية ملياراً و200 مليون دولار كما توقعت موازنة الـ 2023- 2024، فهناك نسبة مماثلة من الأموال التي لم تدخل إلى الخزينة!". 

واعتبر فرح أنّ "القسم الأكبر ممن يتهرّبون من الضريبة هم الأغنياء، لأنّ الفقراء أو الطبقة الوسطى يصعب عليهم التهرّب من الضريبة، خصوصاً الموظّف الذي تقتطع الضريبة مباشرة من راتبه. فالتهرّب يتركّز لدى الشركات، في ظلّ مبدأ الدفترين المنتشر كثيراً في لبنان، وهو دفتر يُقدّم لوزارة المال، وأرقامه غير دقيقة، وآخر يعكس الأرقام الحقيقة لمداخيل الشركة وأرباحها، ولا تعلم به الدولة". 

أسباب التهرّب الضريبي 


يمكن أن يُعزى التهرّب الضريبي إلى عدّة عوامل، برأي جبارة، منها "الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية التي تؤدي إلى تهرّب ضريبي على نطاق واسع. قد يتهرّب الأفراد والشركات من الضرائب للتعامل مع الصعوبات المالية أو للحفاظ على دخلهم في أوقات الصعوبات المالية. وأثّرت الأزمة الاقتصادية وانهيار قيمة رواتب موظفي القطاع العام، وإقفال الإدارات العامة، في الجباية الضريبية". 

كما يمكن أن يؤدّي النظام الضريبي المعقّد الذي يحتوي على العديد من الإجراءات والبيانات الورقية والاعفاءات، إلى صعوبة في فهم الالتزامات الضريبية. أمّا عدم الثقة بالمؤسسات الحكومية وقدرتها على إدارة الأموال العامة بفعالية فقد يتسبب بعدم اكتراث دافعي الضرائب عن الوفاء بالتزاماتهم". 

ولفت رئيس فرع الالتزام الضريبي في دائرة ضريبة الدخل بيروت، شربل اغناطيوس في حديثه لـ "الصفا نيوز" إلى أنّ هناك عوامل عديدة تساهم في التهرّب الضريبي على رأسها غياب الثقافة الضريبية، لأنّ معظم المواطنين يعتبرون أنّ الضريبة هي مبلغ من المال يُدفَع مقابل خدمة. إنّ الضريبة أو الجباية هي مبلغ نقدي تتقاضاه الدولة من الأشخاص والمؤسسات بهدف تمويل نفقاتها العمومية وهي تُدفَع من دون مقابل مباشر. وهنا يختلط هذا المبدأ على المواطنين، الذين غالباً ما يكون جوابهم أنّ الدولة لا تؤمّن إنارة ولا إسفلتاً للطرق ولا طبابة مجانية، فلماذا ندفع لها ضريبة"؟ 

وعليه، رأى أغناطيوس أنّه "يجب تنمية الوعي الضريبي لدى المواطنين، وتثقيفهم عبر المحاضرات والدورات التدريبية، ليعرفوا واجباتهم الضريبية، وهذه الخطوة مهمّة جداً لمحو المفاهيم المخطئة حول الضريبة والسياسات الضريبية التي تعتمدها الحكومة". 

وبمثال بسيط عن حجم غياب الوعي الضريبي، أشار اغناطيوس إلى مسألة في منتهى الأهمية، تغيب عن بال معظم المواطنين، وهي ضريبة الـ8.5 في المئة التي تُقتَطع من مستحقّات العاملين الذين لا يملكون رقماً مالياً ولا يصرّحون للدولة علماً أنّ "هذه الضريبة تنطبق فقط على المواطن غير المقيم، فيما كلّ شخص يعيش في لبنان لأكثر من 183 يوماً في السنة، يُعتبر مقيماً ضريبياً ويجب أن يصرّح مباشرةً للمالية"، كما أنّ "حسم ضريبة الـ8.5 في المئة هو مخالف للقانون، وإذا أراد هذا المواطن إجراء أي معاملة رسمية في دوائر الدولة، يكون هذا الشخص بالنسبة للدولة مكتوماً ضريبياً، وهارباً من الضرائب". 

كما تطرح هذه المسألة أسئلة عدّة أهمّها، هل المؤسسة التي تحسم هذا المبلغ من مستحقات العاملين تقوم فعلاً بالتصريح عن هذه المبالغ؟ وكم من عاملين يعملون في مؤسسات من دون عقود عمل أو ضمانات أو هم مسجلون كمقدمي خدمات في الوقت الذي يتمّ إلزامهم بمكان عمل ودوام وإجازات سنوية؟ 

ومن الأسباب التي تساهم في التهرب الضريبي يذكر أغناطيوس أيضاً، الغرامات غير الرادعة، لأنّ الغرامات بعد الأزمة الاقتصادية فقدت قيمتها، ولم تعدّل بشكل يتناسب مع تطوّر سعر الصرف، وبالتالي لم تعد غرامة رادعة، فإذا لم يقدّم المواطن تصريحه الضريبي في السابق كانت غرامته 100 ألف ليرة فقط، التي كانت تساوي قرابة الـ 70 دولاراً. أمّا اليوم فهي لا تتعدى الـ8 دولارات. لذلك يجب تعديل الغرامات على نحو يناسب حجم المخالفة." كما أن غرامة عدم تقديم تصريح مباشرة عمل لشركة كانت مليوني ليرة لبنانية، أي 1.333 دولاراً، وهي لا تزال مليوني ليرة، أي 22 دولاراً. 

وتنضمّ إلى كل ّما سبق مشكلة النقص في الكادر البشري، يضيف أغناطيوس، ذلك أنّ التوظيف متوقف والاستقالات والإجازات بدون راتب متتالية، فوزارة المال تعمل بعديد تراوح نسبته من 40 إلى 50 في المئة حدّاً أقصى. 

أمّا فرح، فربط بين الاقتصاد الأسود والتهرّب الضريبي، لأنّ "الاقتصاد الأسود يشمل المؤسسات غير المسجّلة، والتي لا تصرّح ولا تدفع رسوماً جمركية، وتهرّب البضائع، وتحقق أرباحاً غير مشروعة، كما هناك جزء آخر من التهرّب الضريبي يرتبط بتمويه الأرباح، إذ تصبح الأخيرة وهمية، وتصرّح الشركات دائماً بأنّها لا تحقّق أرباحاً أو أرباحها ضئيلة، وتخفي الأرباح الحقيقية".