تعكف حكومة تصريف الأعمال "المبتورة" على وضع تصوّر جديد لكيفية "توزيع الخسائر" في النظام المصرفي. يحمل التصور الافتراضي الرقم (4) على لائحة الخطط التي وضعت لمعالجة الودائع وإعادة هيكلة القطاع المصرفي منذ غروب الانهيار خريف 2019. يلاحظ من النظرة الأولى على الخطة الجديدة أنّ حجم الودائع تقلّص بشكل لافت، وكذلك حقوق المودعين، وتراجعت المحاسبة الجدية للمتسببين بالانهيار. فبعدما أشارت الخطّة الأولى إلى التعويض على 98 في المئة من المودعين مبلغاً يصل إلى 500 ألف دولار، تراجع المبلغ المعوّض عنه بآخر نسخة إلى 100 ألف دولار، ولأقلّ من 50 في المئة من المودعين، وبالتقسيط المريح على عدد طويل من السنين. فماذا عن بقيّة التفاصيل التي تحملها الخطّة الجديدة؟ وهل من إيجابيات فيها مقارنةً بالسلبيات؟ وهل تعيد في النهاية الثقة بالقطاع المصرفي؟
تمثّل الودائع "حجر العقد" (Keystone)، بالنسبة إلى الأزمة الاقتصادية. إذ كما يؤدّي فقدان هذا الحجر "الإسفيني" إلى انهيار البناء، يدفع إهمال حلّ أزمة الودائع إلى استمرار الدوران في حلقة الانكماش المغلقة. ولهذا اهتمت الخطط الاقتصادية اهتماماً كبيراً بحلّ معضلة الودائع كمنطلق مركزي للخروج من الانهيار، وأعطتها الأولوية على بقية السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية. وقد وضعت الحكومتان المتعاقبتان منذ العام 2020 أربع خطط لمعالجة أزمة الودائع، 3 منها سمّيت "طبخة البحص"، والرابعة لا تزال قيد التحضير، وهي:
- الخطّة الإصلاحية لحكومة الرئيس حسان دياب في نيسان 2020.
- سياسة الإصلاح المالي والاقتصادي لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي – إستراتيجية النهوض بالقطاع المالي FSRS في أيلول 2022.
- مشروع القانون (مسودة) المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي في شباط 2024.
- مشروع خطة إعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي (مسودة افتراضية) لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، تموز 2024.
الودائع المؤهّلة وغير المؤهّلة
تقدّر الخطة الأخيرة حجم الودائع في القطاع المصرفي بـ 86 مليار دولار، وتقسّمها 40 مليار دولار مؤهّلة وتشكّل 46.5 في المئة من مجموع الودائع، و46 ملياراً غير مؤهّلة وتشكل 53.5 من مجموع الودائع. وتقسم الخطة الوديعة قسمين: (أ) و(ب).
الرصيد (أ): هو {الرصيد بالعملات الأجنبية كما كان في 17 تشرين الأول 2019 + الحوالات النقدية من الخارج من 17 تشرين الأول إلى 9 نيسان 2020، تاريخ صدور التعميم 150}، يحسم منها {السحوبات النقدية + التحويلات إلى الخارج + المسحوبات من البطاقات، من 17 تشرين الأول إلى إعادة الهيكلة + القروض بالدولار التي سدّدت بالشيكات بالدولار المحلّي}.
الرصيد (ب): الرصيد في تاريخ إعادة الهيكلة.
وعليه، تعتبر الخطة أن الرصيد المؤهّل = الأقل بين الرصيد (أ) و (ب).
وتطلب الخطة التنازل عن السرّية المصرفية تجاه لجنة الرقابة على المصارف وشركة التقييم المستقلة. على أن تعيد المصارف البيانات، رهناً بالتدقيق من قبل المدققين الخارجيين للمصارف.
تقدّر الخطة الأخيرة حجم الودائع في القطاع المصرفي بـ 86 مليار دولار
تبرير مصدر الودائع
الأمور لن تقف عند هذا الحد، بل إنّ كلّ وديعة بقيمة تفوق 500 ألف دولار يعجز صاحبها عن تبرير مصدرها ستعتبر غير مؤهّلة. وتخضع الوديعة لتجديد "اعرف عميلك" (KYC) وتعزيز العناية الواجبة على مصادر الوديعة المودعة منذ أول العام 2015. كما سيخضع جميع "الأشخاص المعرّضين سياسياً (PEP) الذين يمتلكون في تاريخ إعادة الهيكلة وديعة بالعملة الأجنبية تفوق مبلغ 300 ألف دولار عبر القطاع المصرفي بأكمله، لتجديد اعرف عميلك. وعلى المودع تبرير مصدر الوديعة في غضون 3 أشهر من إخطاره. وتكون هيئة التحقيق الخاصة مسؤولة عن تحديد الودائع المطابقة بناء على البيانات المقدّمة من المصرف ولجنة الرقابة على المصارف. وعليه، يتم تحويل جميع الودائع غير المؤهّلة المحدّدة في موازنة المصرف إلى حسابات الموازنة، مقابل تخفيض موجودات المصرف للعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان.
الاستقواء على "الغير"
تقدّر الخطّة قيمة الودائع ذات مصدر الثروة غير الموضّحة أو التي لا يمكن تبريرها بـ4 مليارات دولار تمثّل 4.65 في المئة من إجمالي الودائع الخاضعة لإعادة الهيكلة. و"ممّا يلاحظ أنّ الطموحات لشطب الأموال غير الشرعية، وليس غير المؤهّلة، قد تراجعت بشكل كبير جداً"، بحسب المصرفي جان رياشي. وإن كان من غير الواضح إلى ماذا استندت الخطّة لتخفيض الاقتطاع من الأموال غير الشرعية، أي الأموال المرتبطة بالفساد والسرقة والجرائم المالية والصفقات العمومية، فإنّ أغلب الظن "أن تكون حصرت بأموال غير اللبنانيين من الجهات الأجنبية"، برأي رياشي. "إذ تم العدول عن المبدأ بضرورة تبرير مصادر الأموال الذي حكي فيه سابقاً".
استرداد فائض الفوائد
بالإضافة إلى ذلك كله، ستعمد الخطّة إلى استرداد فائض الفوائد المدفوعة من مطلع العام 2015 إلى نهاية 2020، والتي تتجاوز 1 في المئة. وتقدّر الخطة أن تصل قيمة الفوائد المستردّة إلى نحو 9 مليارات دولار.
الودائع المضمونة المؤهّلة
على هذا الأساس، وبعد إجراء كلّ هذه التخفيضات من قيمة الوديعة الأساسية يحصل المودع صاحب الوديعة المؤهّلة على 100 ألف دولار نقداً مقسّطة على 11 سنة ترتفع تدريجياً من 400 دولار شهرياً في السنة الأولى لتصل إلى 800 دولار شهرياً في السنة الحادية عشرة. وتبلغ قيمة مجموع الودائع المستحقّة 100 ألف دولار حوالى 12 مليار دولار تدفعها المصارف بالدولار من خلال استعمال 50 في المئة من سيولتها في الخارج و 50 في المئة من سيولتها في مصرف لبنان.
الودائع المضمونة غير المؤهلة
إذا صنّفت الوديعة غير مؤهّلة يحصل المودع منها على 36 ألف دولار نقداً مهما كان حجمها. ويوزّع المبلغ على 11 سنة أيضاً. ولكن المبلغ الشهري يدفع 75 في المئة منه بالدولار و25 في المئة بالليرة. وتبلغ قيمة هذه الودائع 5 مليارات دولار و 154.8 مليار ليرة.
العدالة في إعادة الودائع
تصنيف الودائع بين مؤهّلة وغير مؤهّلة يخضع للعديد من الاعتبارات والمعايير. وهناك فرق كبير بين الوديعة المكوّنة بالدولار النقدي قبل الأزمة وبين الوديعة المكوّنة من شيكات اللولار التي تم شراؤها بقيمة أقلّ بكثير من قيمتها الحقيقية. وعليه، "لم تبتعد الأرقام بحسب الخطة الحكومية عن الحقيقة"، يقول رياشي. ولو أنّها لن تكون عادلة بنسبة 100 في المئة للمودعين. ذلك أنّها تعتمد على إحصاءات مصرفية دقيقة لكيفية تشكيل الودائع وتاريخها ومختلف التفاصيل التي تحيط بها.
وعليه، فإن المصارف اللبنانية مجتمعة ستتحمّل حوالى 16 مليار دولار فقط من أصل ودائع وصلت حالياً إلى نحو 90 ملياراً. وكلّ ما تبقى من هذه الودائع سيدفع بالليرة، ويحوّل إلى أسهم في صندوق استرداد الودائع، ومساهمة في رساميل المصارف. وهي العملية التي أصبحت تعرف بـ "توزيع الخسائر"، التي سنبحثها تفصيلياً، بحسب الطريقة التي وردت فيها في الخطة الحكومية، في مقال لاحق.