لعلّ أكثر ما خسره لبنان منذ الانهيار العظيم ليس قيمة عملته أو ناتجه المحلّي أو غيرهما الكثير من المؤشّرات الاقتصادية، بل، ببساطة، العدالة الاجتماعية. ففي غضون الأعوام الأربعة الماضية حقّقت شريحة صغيرة جداً من اللبنانيين أرباحاً بعشرات المليارات من الدولارات على حساب الأكثرية المسحوقة تحت ثقل انهيار مداخيلها وسرقة مدخّراتها. ساعدت على ذلك تعاميم وقرارات مثل دعم السلع والمحروقات والأدوية، وإنشاء منصّة صيرفة لامتصاص الليرات، والسماح بتسديد القروض المصرفية بقيمتها غير الحقيقية، وعدم إقرار الكابيتال كونترول. القرارات هذه، من دون استثناء، غُلّفت بطابع تحقيق الصالح العام، فأعطت نتيجة عكسية: أثرت الأقلية وظلمت الأكثرية. ومنذ ذلك الحين، انصبّ الهمّ الأخلاقي، قبل المادّي، على كيفية تحقيق العدالة وتقويم اعوجاج هذا الوضع الشاذ.

الضريبة على القروض تتحوّل إلى مشروع قانون

قبل أيام معدودة، أحال مجلس الوزراء على مجلس النواب مشروع القانون الرامي إلى تخصيص بعض الإيرادات الضريبية لتمويل صندوق استرجاع الودائع المزمع إنشاؤه. ويرمي القانون إلى تخصيص الإيرادات من الأرباح غير المصرّح عنها، والتي لم يسقط استدراكها بعد بعامل مرور الزمن، والتي حققها المقترضون لدى المصارف والمؤسسات المالية العاملة في لبنان من خلال إعادة تسديد متوجّباتهم (قروضهم) بسعر صرف وبقيمة مختلفة عن القيمة الفعلية لديونهم. وتُستثنى من هذه الضريبة القروض السكنية والاستهلاكية الفردية وقروض التجزئة الشخصية التي لا تزيد قيمتها على 100 ألف دولار. وتخصّص الضريبة لتغذية صندوق استرداد الودائع المنوي إنشاؤه، أو أيّ صندوق آخر مخصّص للغاية نفسها.

الضريبة على صيرفة والدعم

وفي معلومات خاصة بـ"الصفا نيوز" أُعدّ اقتراح قانون جديد يهدف إلى تحصيل المستحقّات الضريبية من العمليات التجارية التي استفادت من منصة صيرفة والدعم من المال العام، وتخصيصها لردّ الودائع المشروعة، أي تلك المكوّنة قبل 13 تشرين الأول 2019. وسيقدّم اقتراح القانون عبر مجموعة من النواب التغييريين. وتبلغ نسبة الضريبة 17 في المئة وتستهدف تحديداً "العميل المحترف"، أي الذي تاجر بالشيكات، وحقّق أرباحاً من صيرفة تفوق 15 ألف دولار، والذي استفاد من الدعم.

خشبة خلاص للمودعين

وسط غياب الإصلاحات الهيكلية وتعطّل كلّ السبل المنطقية لإيجاد حلّ لأزمة الودائع، تبرز هذه المقترحات "خشبة خلاص تعيد إلى المودعين بعضاً ممّا فقدوه"، يقول الاستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية المحامي كريم ضاهر، الذي عمل على إعداد القوانين وصوغها مع نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي وبعض النواب التغييريين. "ومن الممكن في حال إقرار القانون والبدء بتنفيذه رفع سقف المبالغ التي يستفيد منها المودعون راهناً بحسب التعميم 158 بواقع 400 دولار شهرياً إلى رقم أعلى، قد يكون مضاعفاً، يساعد على تأمين متطلّباتهم وتحسين ظروف عيشهم".

العديد من الأنظمة الضريبية الشبيهة بالنظام اللبناني تعتمد مثل هذه الضريبة.

الضريبة تخصصية

خلافاً لكلّ الاعتراضات التي تنطلق من عدم جواز فرض ضريبة بمفعول رجعي، أو ذهاب البعض بعيداً باعتبار أنّ "هذه الضريبة، فخّ. لأنّ المبالغ التي جرى الاستفادة منها كانت بتعاميم وقرارات رسمية، لا بل أكثر من ذلك، لقد شجّع عليها مصرف لبنان والحكومة. يجيب ضاهر أنّ هذه الضريبة ليست ضريبة عادية إنّما "ضريبة تخصصية" (earmarked taxes)، تُخصص حصيلتها لغرض معيّن (غالباً اجتماعي أو تنموي أو صحي أو تعويضي). وفي الواقع، فإنّ العديد من الأنظمة الضريبية الشبيهة بالنظام اللبناني تعتمد مثل هذه الضريبة، بعيداً عن مبدأ الشمول أو عدم جواز تخصيص الواردات من دون تمييز في ما بينها لتغطية النفقات الواردة في الموازنة. ويمكن اعتبار هذه الضريبة "تضامنية"، بحسب ضاهر. "خصوصاً أنّ المبالغ التي جرى الاستفادة منها على منصّة صيرفة أو تسديد القروض المصرفية أو الدعم، كانت من أموال المودعين. وبالتالي، تفرض المسؤوليات الأخلاقية الاجتماعية وحتّى الضريبية تحمّل المستفيدين جزءاً من المساهمة في إعادتها. ولا سيما أنّ المبالغ المسترجعة لن تختلط ببقية إيرادات الدولة فتضيع في مزاريب الإهدار والفساد، بل ستذهب إلى غرض محدّد وواضح وشفاف. ويمكن المكلّفين ضريبياً مراقبة المبالغ التي يدفعونها والتحقق من حسن استخدامها، مساءلة المقصّرين ومحاسبتهم. وهذا، يا الأسف، لا يتوفر في بقية الضرائب، خصوصاً اللامباشرة منها".

ضريبة زلزال 1956

علماً بأن لبنان سبق أن فرض ضريبة مشابهة في خمسينيات القرن المنصرم عندما فرض، علاوة على ضريبة الدخل وضريبة الأملاك المبنية، رسوماً إضافية متعددة لتمويل الصندوق المستقلّ من أجل تعمير المدن والقرى المنكوبة بزلزال 16 آذار 1956. وقد تكرّرت التجربة منذ ذاك التاريخ لغايات مختلفة متعددة.

الضريبة لن تقتطع بمفعول رجعي

بعد البحث العلمي والمنطقي حول هذه الضريبة التي تنوي الحكومة فرضها على المستفيدين على ظهر المودعين، تبيّن أنّها موجودة. وبالتالي، فإنّ المجادلة بشأن كونها ضريبة بمفعول رجعي، والتهديد بإسقاطها في المجلس الدستوري، ليسا في مكانهما. "فالضريبة على تسديد القروض بقيمتها غير الحقيقية قائمة في الأساس وفقاً للمادة 4 فقرة (د) من قانون ضريبة الدخل التي كرّسها المجلس الدستوري حين قدّم بعض النواب طعناً بالمادة 93 من موازنة 2024. وقد اعتبر "الدستوري" آنذاك أنّ كلّ إيراد غير خاضع لضريبة نوعية أخرى على الدخل يكون خاضعاً لضريبة الباب الأول"، بحسب ضاهر. "والمطلوب من وزارة المال التحقّق من تسديد الضريبة ضمن مهلة مرور الزمن التي هي 5 سنوات. وإذا لم تدفع الضريبة على الربح تدفع مع أوامر تحصيل حالية".

الزلزال الذي ضرب لبنان في العام 1956 وحتّم فرض ضريبة تخصّصية لمساعدة المنكوبين، لم يكن أقوى من زلزال الانهيار الاقتصادي. وبمعزل عن أهمّية التضامن المجتمعي، فإن الضريبة على من تاجر على صيرفة أو سدد قروضاً تجارية بملايين الدولارات أو استفاد من الاستيراد على سعر 1500 ليرة وباع في السوق السوداء أو هرّب المنتجات، حقّ لن يقتطع إلّا القروش من المكلّفين، في حين ينقذ مئات آلاف المودعين.