أنّ تتداخل النِكَايات السياسية في لبنان مع الملفّات الحياتية الروتينية مثل تأمين خدمة الكهرباء، فهذا أمر اعتدناه. أمّا أن تُدوّل هذه الملفّات، وتلفّ الأصقاع من المحيط إلى الخليج، لنحصل بالنهاية على الفتات، فهذا أمر جديد، ومُهين. إذ قلّما وصلت "مواصيل" المسؤولين اللبنانيين إلى هذا الدرك من الاستهتار بحقوق مواطنيهم، ليست المادية فحسب، إنّما المعنوية أيضاً.

كثيرة هي المبرّرات التي ترافق الانقطاع التام للكهرباء عن لبنان أكثر من أربعة أيام على التوالي والعدّ مستمر، فيما الحقيقة واحدة: فقدان الوقود لتشغيل المعامل رغم جدولة وصول شحنات النفط العراقي بحسب الاتفاقية الموقّعة بين لبنان والعراق بمعدّل 150 ألف طن شهرياً من النفط الأسود الثقيل، إلى آخر تشرين الأول المقبل بحسب العقد الثالث الموقّع بين الطرفين. وعليه، فإنّ الأسئلة التي يجب طرحها هي: لماذا لم تصل هذه الشحنات بانتظام وبالكميات المتّفق عليها؟ ومن يتحمّل مسؤولية التأخير؟ والأهمّ، هل هنالك مُحاسبة للمُقصّرين، وليس الانجرار وراء لعبة السلطة بتقاذف المسؤوليات بين رئاسة الحكومة ووزارة الطاقة ومؤسسة الكهرباء. وتضييع المسؤوليات بالتذرّع بعدم انعقاد مجلس إدارة الكهرباء لاستقراض المازوت من الجيش، نتيجة اعتكاف البعض أو سفر رئيس مجلس إدارتها للاستجمام في الخارج في حين أن البلد غارق في الظلام؟

أسباب انقطاع الوقود

الأجوبة عن الأسئلة الجدّية يمكن تلخيصها بأنّ "الحكومة أخلّت باتفاقها مع العراق على تسديد المستحقّات على أمل تحويل الاتفاقية إلى هبة، وهذا ما دفع بالعراق إلى تأخير الشحنات للحصول على قدر المستطاع من الأموال"، يقول مصدر متابع. في المقابل، لم تنجح خطّة الطوارئ الطاقوية في تأمين ما يكفي من الأموال من الجباية لمصلحة مؤسسة الكهرباء لشراء كميات كافية من الفيول من حسابها. ويرفض مصرف لبنان فتح اعتمادات بالدولار لمصلحة الكهرباء سواء كان مصدر الأموال الجباية أو السلفات، من دون قانون يجيز له ذلك. ويتوجّس من انعكاس العملية على سعر الصرف الذي يحرص على تثبيته منعاً للمزيد من الخضّات الاجتماعية".

الهِبة الجزائرية

إزاء هذا الواقع، عرضت دول صديقة وشقيقة تزويد لبنان بالفيول، بداعي الشفقة، مثل الجزائر. وتكرّر الحديث عن إمكانية تأمين الغاز من مصر، واستجرار الكهرباء من الأردن. هذا بالإصافة إلى استمرار العراق في تأمين النفط الثقيل. وبالفعل أمر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، السبت الماضي، بتزويد لبنان فوراً بكمّيات من الوقود لإعادة التيار الكهربائي"، بحسب ما نقلت وزارة الخارجية الجزائرية في بيان. "وقد خاطب الرئيس في برقية إلى وسائل الإعلام الجزائرية بأنّه كلّف الوزير الأول إرسال حمولات نفطية فوراً إلى لبنان"، بحسب الخبير في الشؤون الاقتصادية وأستاذ التعليم العالي بجامعة أم البواقي – الجزائر، البروفيسور مراد كواشي. "وستكون المساعدة الطارئة عبارة عن هبة مجانية من دولة إلى دولة". وعلى الرّغم من عدم الإفصاح عن كميات الفيول المرسلة، وهل تُقتصر على شحنة واحدة أو أكثر، وعدم توضيح تاريخ وصولها بشكل دقيق، فإنّها "ستكون سريعة"، بحسب كواشي. "لأنّها تأخذ الطابع الفوري، ولن تمرّ بالمؤسسات لتفادي الإجراءات والتعقيدات الإدارية التي قد تؤخّر وصولها. خصوصاً أنّ الظروف التي يمرّ بها لبنان لا تحتمل أيّ تأخير". ويدور الحديث في الجزائر على أنّ الكمية ستكون كافية للبنان من أجل توليد الكهرباء إلى حين استعادة انتظام بقية الشحنات من المصادر التي يعتمد عليها لبنان في إنتاج الطاقة.

العروض على كرمها، وافتراض حسن نيّتها، تبدو "مستبعدة التطبيق"، بحسب الباحث الاقتصادي المتخصّص في شؤون الطاقة والنفط عامر الشوبكي. فهناك دعوى لبنانية على شركة النفط العمومية الجزائرية "سوناطراك" على خلفية ملف الوقود المغشوش الذي يعود إلى العام 2020، ولجوء الشركة الجزائرية إلى رفع قضية تحكيم دولي على وزارة الطاقة اللبنانية، بسبب عدم تسديد ثمن شحنات تم توريدها". وإذا وضعنا هذه القضية العالقة جانباً، فإنّ "للأردن تجربة غير مشجعة مع الوعود الجزائرية"، يضيف الشوبكي. "فالجزائر سبق أن وعدت بتزويد الأردن كميات من الغاز بسعر أقلّ من سعر المستورد من إسرائيل، وعند الاتفاق فوجئ الأردن بأنّ سعر غاز الجزائر مضاعف". وبغضّ النظر عن جميع الاعتبارات والخلافات، فإنّ الأساس بالنسبة إلى الكهرباء في لبنان يبقى الديمومة، وهذا، يا للأسف، لا توفّره الهبات ولا حتّى صفقة التبادل مع العراق. وما دام ليس هنالك استمرارية وانتظام في استيراد المحروقات حاجة معامل الكهرباء، سيبقى لبنان تحت وطأة انعدام الأمن الطاقوي، الذي هو العنصر الأساسي لتوفير الاستقرار الداخلي وجذب الاستثمارات الخارجية وإنجاح أيّ خطة اقتصادية.

العروض على كرمها، وافتراض حسن نيّتها، تبدو "مستبعدة التطبيق".

الحلول الأردنية

في المقابل، فإنّ الحلول الأخرى المتصلة بتفعيل اتفاقية استيراد الغاز واستجرار الكهرباء من الأردن، لا تقلّ تعقيداً عن بقية الحلول المطروحة. فعلى الرغم من إمكانية الأردن إمداد لبنان بما بين 250 و 300 ميغاواط من الكهرباء المُستجرّة، والغاز في أقل من 24 ساعة، فهناك شرطان بحسب الشوبكي:

الأول، استثناء الأردن من قانون قيصر للعقوبات على سوريا. خصوصاً أنّ الولايات المتحدة لم ترفع الحظر رغم انتهاء سريان مدتها القانونية.

الثاني، موافقة سورية على عدم استيفاء رسوم على مرور الغاز أو الكهرباء.

فخطّ الغاز جاهز، وهو ينطلق من الأردن مروراً بحمص حتّى معمل دير عمار، وتمت صيانته والتحقق من سلامته، وشبكة الكهرباء متّصلة. وعليه، ليس ثمّة عائق في حال توفّر الشرطين بتمرير أحد البديلين إلى لبنان بسرعة قياسية.

الحلول المصرية

من الجهة المصرية، فإنّ استيراد الغاز برّاً من مصر عبر الأردن مروراً بسوريا يواجه المعوقات نفسها التي يواجهها استيراد الغاز من الأردن. أمّا الحديث عن استيراد الغاز بحراً فهو "متعذّر أيضاً نتيجة عدم امتلاك لبنان محطّة لاستقبال الغاز المسال"، بحسب الشوبكي. وشحنة الديزل لن تُحمّل من مصر قبل الاتفاق ودفع ثمنها، إذ تحتاج إلى أسبوعين بعد الاتفاق للتحميل والنقل والتفريغ والفحص وبدء التشغيل".

في الخلاصة، فإنّ الهِبة الجزائرية، على تقدير لبنان الكبير لها، تبقى "هبّة" عاجزة عن تبريد أزمة الكهرباء المتفاقمة والمفتوحة على كلّ الآفاق. فالواضح أنّ رفع التعرفة لن يكفي لشراء الوقود اللازم للعودة إلى معدّلات إنتاج ما قبل الأزمة الاقتصادية بواقع 1500 ميغاواط. خصوصاً في ظلّ تراجع الاستهلاك، وإنتاج ثلث حاجة السكان من مصادر الطاقة المتجددة، وإلغاء العدادات بنسبة 1 إلى 1.5 في المئة، وتصغيرها والاعتماد الكبير على المولّدات الخاصة. لعل هذا هو السبب الكامن وراء الدعوة بشكل طارئ إلى البحث عن حلول مستدامة لإنتاج الطاقة بعيداً عن الشعبوية وإثارة الغرائز التي لا تؤدي إلّا إلى استفادة بعض المحظيين من الصفقات على حساب كلّ الشعب اللبناني.