أدت الحرب الإسرائيلية على غزّة منذ تشرين الأول 2023 إلى خسائر في الأرواح بلغت عشرات آلاف الضحايا، وإلى دمار هائل لحق بالقطاع كما تسبب بخسائر فادحة للاقتصاد الإسرائيلي، مع تداعيات تتجاوز الآثار المباشرة للنزاع لتصل إلى أزمة طويلة الأمد تهدد بنسف النمو واستقرار الدولة على المدى القريب. ورغم أنّ إسرائيل تمتلك اقتصاداً قوياً نسبياً، فإنّ حجم الخسائر وطبيعتها يجعلان من الضروري إلقاء نظرة عميقة إلى أزمتها هذه التي تتفاقم يومًا بعد يوم. 

التكاليف المباشرة للحرب: نزيف مالي مستمر 

بحسب بيانات وزارة الأمن الإسرائيلية، فإنّ كلفة الحرب اليومية منذ اندلاعها في تشرين الأول 2023 حتّى نهاية كانون الأول من العام ذاته بلغت مليار شيكل يوميًا (270 مليون دولار)، قبل أن تنخفض خلال العام 2024 إلى 350 مليون شيكل (94 مليون دولار) يوميًا. هذه التكلفة الهائلة تشمل العمليات العسكرية، والتعويضات، وإعادة الإعمار، لكنّها لا تعكس الصورة الكاملة للأضرار التي لحقت بالاقتصاد الإسرائيلي. 

تراجع النمو الاقتصادي وانكماش محتمل 

أدّت الحرب إلى شلل شبه كامل في العديد من القطاعات الحيوية، دفع خبراء الاقتصاد إلى توقّع حدوث انكماش اقتصادي قد يصل إلى 1.5 في المئة في حال استمرار الحرب حتّى نهاية عام 2024. هذا الانكماش المتوقّع لا يعكس التكاليف المباشرة للحرب فحسب، بل يشير أيضًا إلى تراجع في الإنتاجية والاستثمارات، إذ انخفضت صادرات إسرائيل نحو 18.3 في المئة، وتراجعت الواردات بنسبة 42 في المئة خلال الفترة نفسها. 

في هذا الإطار، أشار الخبير الاقتصادي د. بلال علامة في حديثه لـ "الصفا نيوز"، إلى أنّ "إسرائيل هي الخاسرة الكبرى في الحرب اليوم، وقد تكبّدت خسائر اقتصادية ضخمة نتيجة الإنفاق العسكري الكبير، وخطط الطوارئ لحماية مواطنيها. فهذه هي المرّة الأولى التي تستمر الحرب في إسرائيل فترة طويلة تخطّت العشرة شهور. وقد ترتفع أكثر فأكثر، وهي على عدّة جبهات، في غزّة، والضفة الغربية، والحدود مع لبنان، بالإضافة إلى المحاور البعيدة كاليمن، واضطرابات البحر الأحمر، وهو ما يستنزف مواردها ويضعف اقتصادها".  

عجز الموازنة وتراجع الاحتياطيات النقدية 

بالإضافة إلى تأثير الحرب في النمو الاقتصادي، تسبّبت أيضًا في زيادة عجز الموازنة بشكل كبير، إذ من المتوقّع أن يصل العجز إلى 6.6 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2024 (حوالى 8 مليارات دولار). هذا فضلاً عن تراجع عائدات الضرائب بنسبة 8 في المئة، وهو ما يزيد من الضغط على المالية العامة الإسرائيلية. ومن جهة أخرى، أظهرت بيانات البنك المركزي الإسرائيلي تراجع احتياطي النقد الأجنبي في البلاد نحو 5.63 مليارات دولار نهاية كانون الثاني 2024، أي ما يعادل انخفاضًا 41 في المئة نسبةً إلى الناتج المحلّي الإجمالي. 

واعتبر علامة أنّ الكلفة المباشرة التي بدأ يتكبّدها الاقتصاد الإسرائيلي، هي كلفة النزوح، لأنّ "فكرة الاستيطان بنيت على أساس توفير الدولة للدورة الحياتية الاقتصادية التي تسمح لهؤلاء المستوطنين بالبقاء، أمّا اليوم فأدّت عملية النزوح إلى توقّف 70 في المئة من حركة الصناعة والتجارة كما ضربت المشاريع الزراعية، وهو ما أثّر مباشرةً في الاقتصاد الإسرائيلي". 

على مقلب آخر، ووفقاً لمكتب الإحصاء الفلسطيني، فقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقدّر بنحو 8.7 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي الحقيقي في عام 2023، ومن المقدر أن يخسر 25.8 في المئة في عام 2024 (ما يعادل 6.9 مليار دولار مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي التراكمي المتوقع قبل الصراع لعامي 2023 و2024) في الأشهر الستة الأولى من الحرب. 

وإذا استمرت الحرب، فقد تصل خسارة الناتج المحلي الإجمالي إلى 29 في المئة في عام 2024 (7.6 مليار دولار مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي المتوقع قبل الصراع لعامي 2023 و2024) في الشهر التاسع. وقد تأثرت القطاعات الاقتصادية جميعها بشدة، بعدما شهد قطاع البناء أكبر انخفاض لدى بلوغه نسبة 75.2 في المئة. 

التصنيف الائتماني وتفاقم الدين العام 

مع استمرار الحرب، أقدمت وكالة "فيتش" على تخفيض التصنيف الائتماني لإسرائيل من A+ إلى A مع نظرة مستقبلية سلبية، وهذا ما يعكس القلق العالمي بشأن استقرار الاقتصاد الإسرائيلي وقدرته على التعافي في المستقبل القريب. ووصل إجمالي الدَّين العام الإسرائيلي إلى 304 مليارات دولار حتى نهاية عام 2023، ومن المتوقع أن يرتفع الدين مقابل الناتج المحلي إلى نحو 72 في المئة في عام 2025، نتيجة التمويل المالي للحرب وعمليات إعادة الإعمار. 

"وتصنيف فيتش، بالإضافة إلى استمرار الإضرابات، أدّى إلى انسحاب عدد من الشركات أو تخفيض عدد عمالها، لتتراجع الإيرادات التي كانت تحصّلها هذه الشركات نحو 5 مليارات دولار". بحسب ما أكّده علامة.  

تأثير الحرب في سوق العمل والتجارة 

لم تتوقّف تداعيات الحرب عند خسائر الموازنة والاحتياطيات النقدية، بل امتدت إلى سوق العمل والتجارة. فقد انخفضت الصادرات الإسرائيلية بشكل ملحوظ، كما تراجع الإنتاج الصناعي، فأدى ذلك كله إلى زيادة معدّلات البطالة وإغلاق العديد من الشركات والمصانع. ومن المتوقّع أن يفضي هذا التراجع إلى تقليص فرص العمل بشكل أكبر، وزيادة الفقر وتدهور مستوى المعيشة في إسرائيل. 

على المقلب المصري، أضعفت الحرب على غزة اقتصاد مصر بشكل كبير، إذ وصل سعر الجنيه إلى مستوى قياسي بلغ أكثر من 70 جنيهاً مقابل الدولار في كانون الثاني 2024، في السوق الموازية. وهذا ما دفع الحكومة إلى صفقة بيع مدينة رأس الحكمة بالتوازي مع اتفاقات جديدة مع صندوق النقد والبنك الدوليين والاتحاد الأوروبي، للحصول على قروض جديدة مقابل خفض قيمة العملة. 

تسهم الحرب على غزة في زيادة الضغط على اقتصاد مصر، وتزيد من عجز الحساب الجاري وتفاقم العجز في الموازنة، مع تراجع الإيرادات والصادرات وارتفاع كلفة الواردات. 

وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن "الآثار الاجتماعية والاقتصادية المحتملة لحرب غزة على مصر"، تراجعت إيرادات السياحة بنسبة 20 في المئة خلال الفترة الممتدة من تشرين الأول 2023 إلى آذار 2024. وانخفض عدد السفن العابرة لقناة السويس بنسبة 60 في المئة، وانخفضت إيراداتها بنسبة 46 في المئة نتيجة تصاعد الهجمات العسكرية في البحر الأحمر. 

أمّا الأردن، فكشفت أحدث البيانات الصادرة عن وزارة السياحة والآثار الأردنية، تراجع أعداد السياح القادمين إلى إليه 7.2 في المئة في الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، مقارنة بالفترة ىفسها من العام الماضي. وهذا يعني تأثيراً مباشراً في إيرادات الخزينة، إذ يشكّل قطاع السياحة نحو 15% من النّاتج المحلّي الإجمالي (نحو 5 مليارات دينار سنوياً). 

وفي لبنان، قال وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال، أمين سلام، إنّ الخسائر الاقتصادية جرّاء الحرب الجارية في غزة وجنوب لبنان وصلت إلى 10 مليارات دولار. 

وأضاف سلام أن ّالقطاع السياحي اللبناني تضرّر بنسبة 75 في المئة منذ اندلاع الحرب في ظل حالة عدم الاستقرار الأمني الذي حدّ من قدوم السياح والمغتربين اللبنانيين، وأدّى إلى إلغاء آلاف الأنشطة والرحلات التي كانت مقررة في الموسم الشتوي الماضي. 

وأشار إلى أنّ الحرب أضرّت أيضاً بالقطاع الزراعي نتيجة القصف الإسرائيلي على الأراضي الزراعية، إذ خسر القطاع إلى اليوم ما بين 2.5 و 3 مليارات دولار. 


التحديات المستقبلية: هل تستطيع إسرائيل التعافي؟ 

إنّ استمرار الحرب وتصاعد حدّة النزاع يضعان الاقتصاد الإسرائيلي في مهب تحديات غير مسبوقة. فعدا التكاليف الهائلة المباشرة للحرب، فإنّ التأثيرات الطويلة الأمد قد تعوق قدرة إسرائيل على التعافي والنمو في المستقبل القريب. ومن المتوقع أن ترتفع تكلفة الحرب إذا استمرت حتى عام 2025 إلى 76 مليار دولار، فيزيد هذا من عبء الديون ويهدّد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في إسرائيل. 

بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية، هناك نوع جديد من الخسائر التي تواجهها إسرائيل، ومنها، في رأي علامة، "فكّ عدد من اليهود في الخارج ارتباطهم بالكيان الإسرائيلي، وخسارة إسرائيل عطف الكثير من المؤسسات والمنظمات الدولية وغير الحكومية التي كانت تدعمها مالياً في السابق، وتقدّر هذه المبالغ بمليارات الدولارات السنوية. ولا شكّ في أنّ حجم الخسائر تخطّى الـ10 مليارات دولار، وستؤدّي إلى تعثّر الدورة المالية للكيان".  

في ظل هذه التحديات، تواجه إسرائيل خيارات صعبة، فإمّا العمل على إنهاء الحرب بسرعة وتحقيق الاستقرار، وإمّا مواجهة مستقبل اقتصادي غامض يعصف بمكتسباتها الاقتصادية والسياسية على مدى عدة عقود.