عادت الدعاوى في الخارج لتقضّ مضاجع المصارف، بعدما استكانت لمُصادرة جمعيات "غب الطلب" صوت المودعين في الداخل، وتخاذل بعض القضاء، وإسكات المنتفعين. موجعة تلك الدعاوى على المصارف، ليس لكون التمرّد عن سداد المبالغ الكبيرة مستحيلاً فحسب، إنّما لإمكانية فتحها الأبواب المستورة، واجتذاب دعاوى جديدة كفيلة بتجفيف صناديقها. وفي الحالة الأخيرة، ليس للمصارف سوى خيار من اثنين، إمّا تسييل المزيد من الأصول، وإمّا التلكّؤ في تطبيق التعميمين 158 و166، اللذين يحرص عليهما مصرف لبنان. وبالتالي، ملاقاة مصير الاعتماد المصرفي. وهذا ما لا تريده غالبيتها.
قبل أيام معدودة، ظهرت إلى العلن الدعوى المرفوعة من مؤسسة التمويل الدولية على بنك عودة اللبناني. وتطالب "المؤسسة" التي تَتبع لمجموعة البنك الدولي بنك عودة بـ 234 مليون دولار من القروض ومدفوعات الفائدة المستحقّة على مدى السنوات الأربع الماضية. وتدّعي مؤسسة التمويل الدولية أنّ مبالغ القروض، بالإضافة إلى أقساط الفائدة غير المدفوعة، استحقّت في نهاية نيسان 2024. ووفقاً للادّعاء، كان على بنك عودة التقيْد بوضع المبالغ في حساب المؤسسة وصندوق رأس المال التابع لها في حساباتها المفتوحة في كلّ من "سيتي بنك"، و"تشيس مانهاتن بنك" في مدينة نيويورك. وقد حُدّدت الفائدة المتّفق عليها عند نسبة تخلّف عن السداد تبلغ 6.55 في المئة سنوياً، وستزداد المدفوعات المتأخرة بنسبة 2 في المئة سنوياً.
قروض لدعم النمو في الشرق الأوسط
تعود اتفاقية الإقراض بين مؤسسة التمويل الدولية وبنك عودة إلى العام 2014، حين وافق صندوق رأس المال الذي تديره شركة إدارة الأصول التابعة للمؤسسة، على تقديم قرض بقيمة 150 مليون دولار أميركي إلى بنك عودة. ويهدف القرض، بحسب البيان المشترك بين "المؤسسة" و"البنك" المنشور في حينه، إلى المساهمة في توسعة قاعدة رأس مال البنك ودعم خططه للنمو الإقليمي، وتحديداً في تركيا ومصر، وتعزيز التكامل الاقتصادي بين الاقتصادات النامية واستيلاد فرص العمل. وهو الأمر الذي يتقاطع مع أهداف المؤسسة التي تعتبر أنّ دعم نمو الاستثمارات بين بلدان الجنوب من أجل تحفيز التنمية الاقتصادية، هو بمنزلة حجر الزاوية في إستراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكانت مؤسسة التمويل الدولية قد قدّمت في العام 2013 حزمة تمويل بقيمة 75 مليون دولار أميركي إلى بنك عودة تركيا، وهي شركة تابعة مملوكة بأكملها لبنك عودة لبنان.
تاريخ الدعاوى في الخارج ومصيرها
معدودة هي الدعاوى التي رفعت في الخارج منذ تاريخ توقّف المصارف عن السداد للمودعين مطلع تشرين الثاني 2019، إلّا أنّ ما يميّز هذه الدعاوى من حيث الشكل 3 أمور أساسية:
- تقديمها من قبل مودعين لبنانيين متمولين يحملون الجنسيات الأجنبية، والأجانب، وحتّى مودعين تتوفر فيهم شروط الإقامة الفعلية أو الضرائبية في الدول الأجنبية. وقد انضمّت إليهم أخيراً مؤسسة دولية تتبع لأحد أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم.
- قبول القضاء في الخارج الدعاوى بحقّ مصارف في بلد مغاير يتمتّع باستقلالية قضائية، وبتّها لمصلحة المودعين في كلّ من فرنسا (دعوى سميرة ميداني على سرادار بنك)، وبريطانيا (دعوى فاتشيه مانوكيان على سوسيته جنرال وبنك عودة). وبالتالي، تجاوز المحاكم الأجنبية بند حصر الصلاحية بالمحاكم اللبنانية الذي تتضمنه العقود الموقّعة بين المصارف والعملاء. وذلك استناداً إلى بنود اتفاقية بروكسل وتعديلاتها، باعتبار أنّ المودع الأجنبي "مستهلك" ضعيف وسلبي، توجب حمايته. خصوصاً إذا تمً التثبت من أنّ المصرف اللبناني هو الذي استقطبه لوضع الأموال لديه، عبر المراسلات أو الإعلانات او إرسال المندوبين وغيرها العديد من الطرائق.
-رضوخ المصارف اللبنانية، وتسديدها المبالغ إلى مستحقّيها.
الدعاوى في الخارج منصفة ولكن
ممّا لا شكّ فيه أن الدعاوى في الخارج تنصف المودعين وتعيد إليهم حقوقهم كاملة. وذلك على عكس العراضات الشعبوية التي يمارسها عدد من جمعيات المودعين أمام المصارف محلّياً، والتي تحثّ بعضهم على انتزاع الحقّ بالقوّة، فيخرج مخفوراً بحوزته الفتات. لكن من جهة أخرى "بيّنت التطوّرات الأخيرة أنّ هناك اتجاهاً مستجدّاً لدى الدائنين في الخارج للتقدّم بدعاوى قضائية ضدّ المصارف اللبنانية أمام المحاكم الأجنبية"، يقول النائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسان عياش. "والجديد في الأمر دخول جهة دولية طرفاً مدّعياً في هذه الدعاوى جاعلاً لبنان الذي يسعى إلى الحصول على برنامج دعم من صندوق النقد الدولي في مواجهة مباشرة مع مؤسّسة دولية هي فرع من فروع البنك الدولي، وهذا ما يضعف موقف لبنان ومصارفه".
حصول الأقلّية على أموالها وحرمان الأكثرية
وبما أنّ حقّ الدائنين واضح، فمن المرجّح أن تصدر المحاكم المذكورة قرارات قضائية ضد المصارف المعنية أهمّ سيّئاتها هي وضع اليد على مبالغ كبيرة تعود إلى المصارف اللبنانية في الخارج لمصلحة المدّعين. "وهذا ظلم إضافي يلحق بالمودعين المقيمين في لبنان"، برأي عياش. "لأنّ المبالغ الموظفة في الخارج كان يؤمل استعمالها في سداد قسم من ودائعهم في إطار مشاريع هيكلة القطاع المصرفي. عوضاً عن ذلك "ستدفع الأموال إلى قسم من الدائنين الخارجيين، وهذا ما يضرب مبدأ العدالة والمساواة بين الدائنين المتضرّرين من الأزمة المصرفية".
لماذا تأخّر إصدار قانون "الكابيتال كونترول" قرابة خمس سنوات، حتّى الآن؟
الدولار المحلّي ثابت على 15 ألف ليرة
إزاء هذه المشهدية السوداوية، تتلاحق الضربات الموجّهة إلى المودعين، و"آخرها قرار الحكومة في جلستها الأخيرة تثبيت سعر اللولار، أو الدولار المحلّي، على 15 ألف ليرة لبنانية، بعد طول انتظار ووعود من الحكومة برفع هذا السعر إلى الضعفَيْن لتخفيف الهوّة بين هذا السعر وسعر الصرف الحقيقي"، يضيف عياش، "وهذا ما يقلل من خسائر المودعين ويخفف من وطأة "الهيركات" المفروض عليهم، والذي يتجاوز نسبة 85 في المئة".
هذا كله لم يكن ليحصل لو أقرّت الحكومة في اليوم الأول على بدء الانهيار قانون الضوابط المؤقّتة على السحوبات والتحويلات المعروف باسم "كابيتال كونترول". ولكانت تلافت خروج عشرات مليارات الدولارات من النظام المصرفي، وحفظت حقوق جميع المودعين بالتساوي إلى حين البدء بإقرار الإصلاحات وإعادة انتظام العمل المصرف. "لكن التأخير غير المبرّر في ولادة هذا القانون أضاع هذه الفرصة"، بحسب عياش. "وأتاح استعمال أموال المودعين في أبواب غير مشروعة مثل التحويلات المشتبه فيها إلى الخارج لبعض المحظيين وأصحاب النفوذ". أمّا لماذا تأخّر إصدار قانون "الكابيتال كونترول" قرابة خمس سنوات، حتّى الآن، وهو الذي كان يجب إصداره في الساعات الأولى للأزمة، فيجيب عياش أنّ "هذا سؤال كبير لو دقّقنا فيه بعمق لوجدنا أنّ التأخير يعود في قسم منه إلى كسل الحكومة وتقاعسها عن القيام بواجبها في وضع مشروع قانون مقبول للكابيتال كونترول. قد نكتشف أيضاً أنّ بعض مفاتيح التشريع في اللجان النيابية قد تواطأوا مع المصارف لمنع إصدار القانون حرصاً على مصالحها. وسينجو هؤلاء بفعلتهم لأنّ المحاسبة مغيّبة في لبنان على جميع المستويات". ويدفع المودعون وحدهم الثمن.