يفتقد عمّال لبنان والمستخدمون مظلّة الحماية النقابية وسط "زخّات" الإجحاف، وصعوبة ظروف العمل، وتدهور الأجور، وفقدان الضمانات الاجتماعية البديهية وغيرها الكثير من الحقوق المسلوبة. "مش عاجبك، فلّ"، عبارة، وإن كان لا يسمعها العمّال والمستخدمون من أصحاب العمل بالفم الملآن، فهم يشعرون بها بحاسّتهم السادسة. فمع معدّل بطالة معترف به من الإحصاء المركزي، يتجاوز 30 في المئة، ووقوع 67 في المئة من المقيمين تحت ضغط الجوع، بحسب IPC، لم تعد المؤسسات تخشى فقدان العمالة، وإن كانت متدرّبة وماهرة. السِّيَر الذاتية مكدّسة بالآلاف في مكاتب الـ "أتش آر". والوظيفة التي ينتفض عليها العامل، هناك ألف من يتمناها... و"الشغل بيضلّ ماشي".
هذه الصورة المتشائمة التي رسمناها في المقدّمة تبقى، بحسب علم الألوان، رمادية، لأنّ الواقع يلتحف اللون الأسود الأدكن. ويكفي التذكير بأنّ تعويضات نهاية الخدمة في القطاعين العام والخاص فقدت 98 في المئة من قيمتها، والأجور خسرت، برغم الزيادات الفعلية والوهمية التي لحقتها، نحو 50 في المئة من قدرتها الشرائية. الضمانات الصحّية غائبة، وبدلات التعليم شكلية. الأسعار ترتفع باطّراد. الدعاوى في مجالس العمل التحكيمية مجمّدة منذ سنوات...
وفوق هذا كلّه يُطلب من العمال والمستخدمين القيام الواجبات الوظيفية نفسها كما كان عليه الوضع قبل الانهيار.
النقابات لا تمثّل العمّال
منذ أيام النضال الفعلية "لم تكن النقابات الممثّل الحقيقي لأكثرية العمال"، بحسب المستشار النقابي والقانوني في "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين"، عصام ريدان. "ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال مراجعة دراسة "من يمثّل من"، للنقابي إسماعيل بدران والصحافي محمد زبيب، تُبيّن أنّ أعضاء النقابات في ثمانينيات القرن المنصرم لم يمثّلوا إلّا 5.6 في المئة من العمال. وذلك بالاستناد إلى مراجعة سجلات وزارة العمل والانتخابات ولوائح الشطب". فكيف هو الحال، اليوم، بعد تفكيك النقابات، وتفريخ الاتحادات الصورية التي يترأسها نقابيون موظفون عند أصحاب نعمتهم من السياسيين وأرباب العمل! "فمن أصل 600 نقابة ليس هنالك أكثر من 10 نقابات فاعلة أثبتت أنّها لا تزال تدافع عن قضايا عمّالها وحقوق المستخدمين"، بحسب ريدان. "وهي محصورة بنقابات المصالح المستقلّة والمؤسسات العامة واتحاد موظفي المصارف ومصرف لبنان. والبقية من النقابات موجودة شكلياً، ومشاركة العمّال فيها متدنّية جدّاً وأقلّ بما لا يقاس مما كانت عليه في الثمانينيات.
غياب الاتحاد العمالي العام
النقص الهائل في التمثيل النقابي كان يعوّضه خلال الفترات الماضية "الاتحاد العمالي العام" بوصفه المظلّة الجامعة والممثّل لجميع النقابات واتحاداتها على مختلف قطاعاتها العمّالية وتلاوينها السياسية. ولكن حتّى هذا التمثيل، على ضآلته، بدأ بالتراجع تدريجياً بعدما تحوّلت أغلبية النقابات من تمثيل العمّال إلى "تمثيل صاحبها فلان"، يقول ريدان. "وأصبحت تنفّذ أجندته السياسية للضغط على هذا المسؤول أو ذاك لانتزاع المصالح الشخصية". ففقدت تمثيلها الحقيقي العددي والمعنوي للعمّال. ومما زاد من هشاشتها، تشكيل قولبة هيكلها التنظيمي على نحو يخدم الأحزاب السياسية. إذ تُشكّل النقابات وتُجمع في اتحادات لزيادة الصوت التمثيلي في الاتحاد العام بمعدل صوتين عن كلّ اتحاد. فارتفع العدد من 17 اتحاداً مطلع السبعينيات إلى 62 تجدد نفسها بالانتخابات حيناً بعد حين. وهكذا رُبطت القضايا المطلبية بالأجندة السياسية التي يقررها المرجع للاتحاد. ولعلّ الدليل الأبرز خلوص الاتحاد العمالي العام إلى أنّ الحد الأدنى للمعيشة هو 52 مليون ليرة ورضاه في لجنة المؤشر بـ 18 مليون ليرة منقوصة، لا تكفي لسداد فاتورة الكهرباء. ولم تنعكس على الرواتب كافة بل الرواتب التي تقلّ عن هذا الرقم، وبقيت الرواتب التي تدور في هذا الفلك كما هي. ولم يلحق بقية الأجور أيُّ شيء. وهذا ما أفقد النقابات صدقيتها.
الحرب تعلّق المطالبات وتبدّل الاهتمامات
محاولات بعض النقابات المستقلّة التعويض عن غياب الاتحاد العمّالي العام للدفاع عن حقوق العمال المنتسبين إليها، واجهها اندلاع الحرب وتعطّل المرافق العامّة. "وزارة العمل التي تعتبر وزارة الوصاية على النقابات والملجأ للعمال إلى جانب مجالس العمل التحكيمية وتفتيش الضمان، غير فاعلة"، يقول رئيس "الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان - FENASOL"، كاسترو عبدلله. فتفتيش العمل والضمان شبه متوقفين، ومجالس العمل معطّلة. ومن جهة أخرى أدّت الحرب إلى تعليق الاعتصامات والإضرابات التي تشكّل السلاح الأقوى بيد النقابات، من أجل عدم تعطيل المرافق الأساسية وزيادة طين الأزمة المعيشية وارتفاع الأسعار بلّة على المواطنين. "فعلى الرّغم من الظلم الذي يلحق بحوالى 2000 سائق شاحنة على المرفأ، اضطررنا إلى وقف التحرّكات كيلا نعطّل خروج البضائع في هذا الوقت الحساس"، يقول عبدلله. "بالإضافة إلى تحمّل الدعوات الكيدية الشخصية من أصحاب العمل إلى كبح جماح المطالبات بغية تحسين الظروف والتقديمات إلى العمال".
وعلى الرّغم من ذلك كلّه، تسعى النقابات المنضوية تحت اتحادنا إلى إنجاز أمرين أساسيين، بحسب عبدلله:
* الانصراف إلى التنظيم الداخلي على قواعد حديثة شفافة وسليمة. وهذا ما برهنت عليه الانتخابات الأخيرة في "الاتحاد" التي أضافت إلى لجان الاختصاص ممثلاً عن العمال المهاجرين في سابقة لم تشهدها النقابات البتة، وتشكّل تحدياً لقانون العمل. ورفع عدد السيدات في القيادة إلى سبع. والعمل مع منظمة العمل الدولية والأطراف الثلاثية التمثيل لتحقيق العدالة والمساواة والحماية الاجتماعية. خاصة في القطاعات غير النظامية. والعمل على نشر وعي نقابي لدى العاملين في هذه القطاعات من أجل الوصول إلى حق التنظيم النقابي وتطبيق القوانين وتحويل العاملين في القطاعات الثلاثة غير النظامية إلى القطاع النظامي.
* الوقوف إلى جانب النازحين ليس من الزاوية الإنسانية فحسب، إنّما الاقتصادية أيضاً. لأنّ النزوح يترك تأثيرات مزدوجة بالغة السلبية والخطورة على العمال في القطاع غير النظامي، من جهة. خصوصاً في الزراعة والحرف والبناء والتجارة. وعلى المجتمعات المضيفة من جهة ثانية، نتيجة زيادة الأعباء المادية والمتطلبات الحياتية.
إزاء هذا الواقع المستجدّ "تعمل النقابات المنضوية تحت راية الاتّحاد والهيئات المتعاونة معه" على المستويين المحلّي والدولي من أجل حماية العمّال والمواطنين. وقد شكّلت خليّة أزمة للمتابعة بالتعاون مع المؤسسات الصحية، وفتحت باب التطوّع لسائقين ومنقذين في الدفاع المدني وعاملين في القطاع الصحّي، وتهيّئ لدورة إسعافات أولية. وتسعى إلى مطالبة أكثر من 250 هيئة نقابية وشعبية ومؤسسة دولية بممارسة الضغوط لوقف الحرب وتقديم المساعدات العينية والمادية.