ينذر الذوبان السريع لمختلف المؤشّرات المصرفية والنقدية بانهيار مالي واقتصادي لا مثيل له إلّا "avalanche" الجليد. رُبَّ قائلٍ إنّ الانهيار قد وقع بالفعل، متسائلاً بجدية أو بتهكّم: "كيف لنا أن نخسر ما سبق وخسرناه من جنى عمرنا وقيمة اجورنا ومستقبلنا... وغيرها كمٌ لا يحصى من الخسارات". وهو مصيب في كلّ تعليق. لكن كما يقال، هناك دائماً ما هو أسوأ! والأسوأ لم نصل إليه بعد.

من النّاحية الاقتصادية الصرف، تسير الأزمات المالية والنقدية على هدي واحد من الأشكال الثلاثة التالية: (V)، وتعني الوصول إلى القعر وعودة الصعود إلى المستوى نفسه. (L)، أي الوصول إلى القعر والسير من دون أي نموّ بثبات. وهو نوع من الاستقرار السلبي. (I)، وتعني استمرار الانهيار من دون حدود. في لبنان، تختلف آراء الخبراء حول موضوع محوره هل نحن في المرحلة الثانية أو الثالثة. فالمدافعون عن وصول الانهيار إلى القعر وسيره نحو الأسفل بثبات، ينطلقون من استقرار سعر الصرف، والخروج من دائرة الانكماش إلى "رحاب" معدّلات النمو الصفرية أو ما فوقها بقليل، وعودة الاستهلاك إلى سابق عهده وتحسّن الأجور نسبياً وعودة انطلاق القطاع الخاص وتوازن موازنة الدولة. فيما يرى مؤيدو الشكل (I) إنّ الانهيار مستمر ولو بوتيرة أبطأ، والإجراءات الإصلاحية على صعيد سعر الصرف والأجور هشّة كثيراً، ومعرّضة للاختلال عند أيّ هزة صغيرة. علماً بأنّ الموازنة غير حقيقية ولا تأخذ في الاعتبار التخلّف عن سداد الدين العام بالدولار، والنفقات الاستثمارية الكثيرة، وتعويضات نهاية الخدمة للعاملين، ومستحقّات الضمان والمستشفيات... وغيرها العديد من المتطلّبات. ولعلّ الأخطر هو استمرار تآكل المصارف لكونها تشكّل واحداً من أهمّ القطاعات الاقتصادية، يجمع ثروات اللبنانيين ومدخّراتهن ويمثّل العمود الفقري لعودة انتعاش الاقتصاد واستعادة نموّه.

المؤشّرات المصرفية تستمرّ في الهبوط

ما كشفته الأرقام عن واقع القطاع المصرفي إلى نهاية حزيران 2024، ينذر بتآكل المصارف من الداخل، ولو أنّها استطاعت أن تحافظ على هيكلها من الخارج. وهذا التآكل لا يعرّضها للوقوع في أيّ لحظة فقط، إنّما يصيب الاقتصاد بتراجع الاستثمارات وفقدان الوصول إلى القروض وتراجع التوظيف وحرمان المودعين مما لا يقلّ من 72 مليار دولار في أحسن الأحوال. وهذا ما لم يكن ليحصل لو طُبّقت الإصلاحات عشية الانهيار في العام 2019، إذ كان المركزي يحتفظ بنحو 32 مليار دولار من احتياطيات، وقروض بقيمة تصل إلى 40 ملياراً، وملاءة مالية أعلى. واليوم كلّ ذلك يتبخّر تدريجياً.

بحسب آخر المؤشّرات التي أعلنت عنها جمعية مصارف لبنان، يتبيّن أنّ ودائع القطاع الخاص بالدولار تراجعت بنسبة 27.4 في المئة، من 124 مليار دولار في أيلول 2019 إلى 90 ملياراً في نهاية حزيران 2024. فيما انخفضت محفظة القروض بالدولار للقطاع الخاص بنسبة قاربت 83 في المئة من 38 ملياراً و300 مليون دولار، إلى نحو 6 مليارات و693 مليون دولار. وفي حين كانت نسبة القروض إلى الودائع تبلغ حوالى 31 في المئة في العام 2019 انخفضت هذه النسبة إلى 7.4 في المئة في حزيران من هذا العام. وتدلّ هذه الأرقام على أمرين خطيرين. فهي تشير من جهة إلى أنّ جزءاً كبيراً من الودائع أُخرج نقداً بأكثر من طريقة، فيما سحب جزء آخر بأقلّ من قيمته الفعلية من خلال التعميم 151 والتعميم 158 قبل تعديله، إذ كان المودع ملزماً بسحب 400 دولار على سعر صرف 3900 ليرة ومن ثم 15 ألفاً لكي يتمكّن من سحب 400 دولار نقداً. كما تشير من جهة أخرى إلى تسديد معظم القروض بغير قيمتها الحقيقية بالليرة أو شيكات اللولار، وهذا ما حرم المودعين من إمكانية تعويض بعض من ودائعهم.

في المقابل، يظهر من الأرقام أنّ ودائع الليرة لم تنخفض إلّا نحو 10 في المئة تقريباً من 69.5 ألف مليار ليرة إلى 62.7 ألف مليار. ولعلّ السبب يعود إلى فقدان الليرة 98 في المئة من قيمتها، وعدم جدوى سحب هذه الاموال سواء كانت ودائع فردية أو أموال مؤسسات وصناديق مخصصّة لتعويضات نهاية الخدمة وسواها. ومن جهة أخرى، يظهر أيضاً أنّ القروض بالليرة انخفضت بنسبة أقلّ من انخفاض قروض الدولار، فتراجعت بنسبة 54 في المئة من نحو 24.5 ألف مليار ليرة إلى 11 ألف مليار تقريباً. وبلغت نسبة القروض بالليرة إلى الودائع حوالى 18 في المئة.

فقدان الأموال الخارجية

ومما يتبين من الأرقام إنّ ودائع المصارف اللبنانية في المصارف المراسلة كانت قيمتها 8 مليارات و976 مليون دولار عشية الانهيار في أيلول 2019، وقد أصبحت 4 مليارات و407 مليون دولار في حزيران 2024. والحقيقة أنّ حجم الودائع بالمصارف المراسلة المحتسب بالدولار النقدي تراجع إلى حدود المليار دولار في العامين الأوليين من الانهيار نتيجة استعمال هذه الأموال أو السحب منها للتعويض عن بعض المودعين، ولم يعد هذ الرقم للارتفاع إلّا بعد تعديل التعميم 154 بالتعميم الوسيط 645، والذي طلب فيه المركزي من المصارف التجارية تكوين حساب خارجي حر من أيّ التزامات لدى مراسليه في الخارج لا يقلّ، في أيّ وقت، عن 3 في المئة من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لديه كما هي في 30 أيلول 2022. في المقابل فإنّ ودائع القطاع المالي غير المقيم في المصارف اللبنانية تراجعت من 9 مليارات و661 مليون دولار في أيلول 2019 إلى 2 مليار و655 مليون دولار في حزيران 2024 ومن المرجح أن تكون هذه الاموال سحبت بغير قيمتها الحقيقية ومن خلال التعميمين 151 و158. ولو قدر المحافظة على الاموال في المصارف المراسلة كما كانت عشية الانهيار واضيف عليها ما يزيد عن 3 مليار دولار لكانت ودائع المصارف اللبنانية في المصارف المراسلة تفوق 12 مليار دولار. أي أنّها تزيد عن احتياطياتها أو توظيفاتها الإلزامية في مصرف لبنان. ولكان الاثنان يشكّلان مبلغاً وازناً قادر على حماية المودعين.

الفروع إلى انخفاض والموظفون أيضاً

أقفلت المصارف 363 فرعاً خلال السنوات الأربع الماضية، وتخلّصت من نحو 10 آلاف موظف. إذ تراجع عدد الموظفين في القطاع المصرفي من 24704 إلى 14693 موظفاً. فيما انخفض عدد الفروع من 1058 إلى 695 فرعاً بين أيلول 2019 ومطلع العام الجاري.

من الممكن أن نستخلص من هذه المؤشّرات أنّه ما دام الوضع المصرفي ليس بخير، فإنّ وضع البلد سيبقى سيئاً. والسبب ببساطة هو أنّ "الطمع مغيّب رأس المال"، كما يقول المثل. فطمع المصارف بالفوائد العالية والربح السهل والسريع ضيّع ودائع المواطنين. وطمعها بالإبقاء على هذه الودائع "مخلّلة" في صندوق استرداد الودائع أو ما شابهه، سيؤدّي إلى خسارة البلد إمكانية وجود قطاع مصرفي سليم قادر على دعم البلاد والعباد.