تشكّل الشركات المتعدّدة الجنسيات جزءًا كبيرًا من النظام الاقتصادي العالمي. إلّا أنّها غالبًا ما تجد نفسها في مواجهة تحدّيات غير متوقعّة قد تؤثّر بشكل كبير في أدائها المالي. من هذه التحديات، تبرز "المقاطعة" كأداة قوية يمكن أن تتسبّب بخسائر كبيرة للشركات، خاصّة عندما تكون المقاطعة موجّهة ضد علامات تجارية ذات شهرة عالمية مثل ماكدونالدز وستاربكس وبيبسي وزارا وغيرها، نتيجة دعمها لجيش الاحتلال الإسرائيلي في عملية الإبادة الجماعية التي يمارسها بحق الشعب الفلسطيني.
تأثير المقاطعة في العلامات التجارية
عندما تتعرّض الشركات المتعدّدة الجنسيات لمقاطعة، لا تخسر في المبيعات والإيرادات فحسب، بل تتأثر سمعتها أيضًا، وهذا ما ينعكس سلبًا على قيمة علامتها التجارية. على سبيل المثال، "ماكدونالدز"، التي تعتبر واحدة من أشهر سلاسل المطاعم في العالم، شهدت تراجعًا كبيرًا في مبيعاتها في بعض الأسواق نتيجة حملات المقاطعة. فالتأثير لا يتوقف على إغلاق بعض الفروع أو تخفيض ساعات العمل فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى تراجع الثقة في العلامة التجارية، متسببًا في خسائر طويلة الأمد.
كما تضطر الشركات إلى إنفاق مبالغ كبيرة لإدارة الأزمات الناتجة من المقاطعات. يشمل ذلك تكاليف الحملات الإعلامية لتحسين الصورة العامة، وإعادة بناء الثقة مع المستهلكين، وكذلك إجراء تعديلات في السياسات الداخلية. وكانت قد انتشرت حملات إعلانية لكلّ من شركة "ماكدونالدز" و"بيبسي" على الطرق في الدول المقاطعة، تسوّق لعروض وصلت إلى 50 في المئة، أو لجوائز يربحها المواطنون لدى شراء عبوة بيبسي.
خسائر الشركات
لم تكن "ستاربكس" بعيدة عن تأثيرات المقاطعة. فقد تعرضت الشركة لحملات مكثفة دعت المستهلكين إلى تجنّب شراء منتجاتها بسبب مواقف الفروع في الغرب الداعمة لإسرائيل. هذا الأمر أدى إلى انخفاض كبير في مبيعاتها في بعض الأسواق، وأرغمها على اتخاذ خطوات للتخفيف من الأضرار، مثل تقديم تخفيضات أو إطلاق حملات ترويجية جديدة لاستعادة عملائها. وتراجعت القيمة السوقية لأسهم "ستاربكس" نحو 22 مليار دولار، منذ بدء الحرب في غزة. أي تراجع السهم من 106 قبل طوفان الأقصى حتى وصل إلى ما دون 90 دولاراً، ثم إلى ما دون 80 دولاراً، وصولاً إلى 73.1 دولار في أيار الماضي.
ونتيجة الخسائر الضخمة التي تكبّدتها الشركة الأم، علّقت بعض فروع "ستاربكس" في لبنان يافطات على مداخلها تنفي أي دعم للعدو الإسرائيلي وتؤكّد دعمها للقضية الفلسطينية، مشيرة إلى أنّ 5 في المئة من أرباح المحلّ ستذهب مساعدات إلى الفلسطينيين في غزة. وهذا إن دلّ على شيء فعلى قدرة المقاطعة على التأثير في قرارات الشركات وتوجهاتها السياسية.
"بيبسي" و"كوكاكولا"، كعلامتين تجاريتين عالميتين في قطاع المشروبات الغازية، واجهتا أيضًا تحديات مشابهة. فعلى الرغم من قوتهما الاقتصادية وشبكة التوزيع الواسعة، أثّرت المقاطعة أثّرت بشكل كبير في مبيعاتهما في بعض الأسواق الحيوية. وهذا يوضح أنّه حتى الشركات ذات الموارد الضخمة قد تجد نفسها في موقف ضعيف تحت وطأة حملات المقاطعة الواسعة.
وبلغت خسارة شركة بيبسيكو نحو 57.7 في المئة، في الربع الأخير من عام 2023. وتراجعت نسب أرباح شركة كوكاكولا نحو 35.6 في المئة، لتتكبّد خسارة 600 مليون دولار، في الربع الأخير من عام 2023.
أمّا شركة أمريكانا المالكة لـ “دجاج كنتاكي" و"بيتزا هت" و"هارديز"، و"كوستا كوفي"، و"باسكن روبنز" فتراجع صافي أرباحها بنسبة 48.3 في المئة فبلغ 32.8 مليون دولار في الربع الرابع من عام 2023.
وانخفض صافي الربح العائد إلى مساهمي شركة أمريكانا الأم بنسبة 51.8 في المئة، أي إلى 28 مليون دولار خلال الربع الأول من العام الجاري مقارنة بـ 58.1 مليون دولار في الفترة المقابلة من عام 2023.
كذلك تلقّت شركة "ماكدونالدز" العالمية ضربة قاسية، فبعد قرار فرع الشركة في إسرائيل توزيع وجبات مجانية على جيش الاحتلال، وتغيير غلاف ورق البرغر وجعله أبيض وأزرق تقليدًا للونَي علم الاحتلال، تراجعت مبيعات "ماكدونالدز" عالمياً في الربع الثاني من العام الجاري للمرة الأولى منذ 3 سنوات بنسبة 1.3 في المئة. علمًا بأنّ نسبة الإقبال على مطاعم "ماكدونالدز" في المغرب انخفضت 35 في المئة خلال الأشهر الثمانية الماضية.
وتواجه شركة "ماكدونالدز" أزمة مع فشلها في تدارك تراجع قيمة أسهمها بنسبة 15 في المئة هذا العام وتراجع المبيعات العالمية، رغم محاولاتها المكثفة لجذب المستهلكين من خلال تقديم عروض وتخفيضات على الوجبات.
شركات تتراجع
أما "زارا"، التي تعد واحدة من أكبر شركات الأزياء في العالم، فقد تأثرت هي أيضًا بالمقاطعات، خاصة في الأسواق التي تعتمد على قاعدة عملاء واسعة من فئات معينة. وذلك نتيجة حملتها الإعلانية التي استخدمت فيها فكرة الجثث المكفنة والمستوحاة من تشييع المسلمين لموتاهم، وكذلك خروج شخص من بين الركام في إشارة إلى ما يحدث في غزة، لتُشن حملة ضخمة على الشركة، أجبرتها على إزالة الحملة الإعلانية من جميع منصاتها الإلكترونية. كما أصدرت مجموعة إنديتكس، المالكة لشركة "زارا"، بيانًا أوضحت فيه أنّ "مجموعة "أتيليه" صُمّمت في تموز 2023 والتُقطت الصور التي أثارت الانتقادات في أيلول 2023، في حين بدأت الحرب بين "حماس" وإسرائيل في تشرين الأول". إلا أنّ هذا التوضيح لم يقنع المناصرين للقضية الفلسطينية، وانعكس الغضب من منصات التواصل على الشارع، حيث نشر مدونون مجموعة من الفيديوهات تظهر قيام نشطاء في مونتريال في كندا برش واجهة أحد فروع سلسلة "زارا" بشعارات مؤيدة للفلسطينيين، في حين أغلق محتجون مدخل أحد الفروع في أميركا.
وتأتي إنجازات المقاطعة الحديثة لاستكمال النجاح في إنهاء دعم شركات عالمية بارزة للاحتلال وتواطؤها معه، مثل شركة الأمن الخاصة “جي 4 إس – G4S” التي قررت بيع جميع أعمالها المتبقية في الأراضي المحتلة، وشركة “فيولا – Veolia” الفرنسية التي أصبحت أول شركة عالمية تنسحب بشكل كامل من السوق الإسرائيلية بعد خسارة عقود عمل تقدر بنحو 20 مليار دولار، بحسب ما أفادت به حركة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS).
وانسحبت شركة الاتصالات الفرنسية “أورانج – Orange” من السوق الإسرائيلية بعد حملات ضدها في فرنسا ومصر، وشركة “إتش بي – HP” العالمية، التي فسخت عقدها مع سلطة الاحتلال لتوفير خوادم لحوسبة قاعدة بيانات السكان الإسرائيليين.
أمّا شركة "ماكدونالدز" العملاقة للوجبات السريعة، فتعتزم استعادة ملكية جميع فروع مطاعمها في إسرائيل. وقالت الشركة إنها توصلت إلى اتفاق مع صاحب الامتياز ألونيال لإعادة 225 متجراً في جميع أنحاء البلاد، توظف قرابة 5000 شخص.
ونشرت الشركة الأم بيانًا تؤكد فيه بشكل قاطع، أنها لا تمول أو تدعم أي طرف من أطراف الصراع” ونشرته على صفحاتها الرسمية وعلى صفحات الفروع في كل من السعودية والإمارات والكويت وقطر والبحرين وعمان.
العواقب الاقتصادية
من الواضح أن المقاطعة لا تؤثر سلبًا في مبيعات هذه الشركات فحسب، بل قد تؤدي أيضًا إلى إغلاق بعض الفروع، وتقليص العمالة، وتأجيل خطط التوسع. عدا أن التأثير النفسي للمقاطعة في الإدارة والمستثمرين ذو تبعات سلبية على المدى الطويل تجعل الشركات تعيد النظر في إستراتيجياتها المتعلقة بالتعامل مع مثل هذه الأزمات.
إنّ المقاطعة، بحكم كونها أداة اقتصادية، هي من أقوى الأسلحة التي يستخدمها المستهلكون للتأثير في الشركات المتعددة الجنسيات. فعلى الرغم من أنّ هذه الشركات تتمتّع بموارد ضخمة وقدرة على التكيف مع الأزمات، فقد تتسبّب لها المقاطعة في خسائر فادحة على المديين القصير والطويل. لذلك، يجب أن تكون أكثر وعيًا بحساسية الأسواق وتوقعاتها، وأن تتخذ خطوات استباقية بشأن التعامل مع مثل هذه الأزمات قبل أن تتفاقم.