أصاب الاقتصاد اللبناني في العام الخامس على أعظم انهيار مالي ونقدي، ما أصاب من "رضي بالهمّ، والهمّ لم يرضَ به". فالتسليم بالعجز عن إقرار الإصلاحات دفع القطاع الخاص خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة إلى بلسمة جراحه، والانطلاق تدريجياً في مشوار التعافي. إلّا أنّ خطواته التي أرادها حثيثة، كانت تتثاقل بفعل ما صُبّ على أرض الواقع من "غراء" محلّي إقليمي ودولي. فلم تكد المؤسسات التي تعمل باللحم الحيّ أن تمضي قدماً، حتى ينَكَصَ على عَقبِهِ. وهكذا دواليك.
النشاط "المطعمي" يتقهقر
دفعت الخشية من اندلاع حرب شاملة إلى تراجع النشاط في قطاع "المطاعم والمقاهي والباتيسري والملاهي"، بنسبة 30 في المئة في تموز الفائت، مع التوقّع بأن "ترتفع هذه النسبة إلى 75 في المئة في آب الحالي"، بحسب بيان لرئيس نقابة القطاع طوني الرامي. المفارقة أنّ هذا القطاع كان قد شهد منذ مطلع العام نمواً بنسبة 15 في المئة. إذ ارتفع عدد المؤسسات المطعمية النظامية من 722 مؤسسة سنة 2023 إلى 810 مؤسسات في النصف الأول من العام الجاري. وقد توزّعت بحسب النقابة على 11 منطقة سياحية أساسية في بيروت، هي: بدارو، بليس، وسط البلد، الجميزة، الحمرا، مار مخايل، مونو – السوديكو، الأشرفية، فردان، زيتونة باي.باستثناء اهدن (قضاء زغرتا) التي حقّقت زيادة في عدد رواد المؤسسات المطعمية بنسبة 3 في المئة في تموز، سجّلت كلّ المناطق من الجنوب إلى الشمال تراجعاً بنسبة راوحت بين 23 في المئة في وسط بيروت، و54 في المئة في طرابلس. وكان لافتاً تراجع الإقبال على مناطق الجنوب، بنسبة أقلّ من بقيّة المناطق، حيث سجّلت صور تراجعاً بنسبة 24 في المئة.
توقّف إخراج البضائع من المرفأ
العراقيل الاقتصادية لم تبق محصورة بالعوامل السياسية والجيوسياسية، الخارجة عن إرادة المسؤولين المحليين، إنّما تعدّتها إلى إهمال تنظيم "باب لبنان" الاقتصادي ومنفذه شبه الوحيد وصيانته. إذ فوجئ الصناعيون والمزارعون بتعطّل نظام الجمارك في المرفأ. فتسبّب ذلك باحتجاز بضائع القطاع الزراعي والصناعي، علماً بأنّ المعنيين "صرعوا رؤوسنا" بالإجراءات الاحترازية لحماية الأمن الغذائي فيما لو تطوّرت الأوضاع الأمنية. هذه الواقعة اعتبرها رئيس تجمّع مزارعي وفلّاحي البقاع ابراهيم الترشيشي من "نكد الدهر"، سائلاً "هل حالة الطوارئ التي يتمّ التحضير لها في لبنان تقوم بتعطيل المرفأ وحجز آلاف الأطنان من المستلزمات الزراعية والمواد الأولية في الزراعة، في الوقت الذي يجب أن نعمل على مدار الساعة لإنجاز هذه الأمور وتخليص البضائع بالسرعة القياسية. ولا سيما أنّنا في حالة طوارئ كما يدّعون". هذا عدا التكاليف الإضافية التي سيتكبّدها المستوردون على الرسوم والضرائب والتبريد، وبدل الأرضية وإمكانية تلف البضائع بسبب الحرّ.
المجاعة تدقّ الأبواب
في وقت تشهد مختلف المؤشّرات الاقتصادية الأساسية تراجعاً كبيراً، تزداد معدّلات الفقر بنسب أكبر. إذ يظهر "تحليل انعدام الأمن الغذائي الحاد في لبنان" ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد إلى مليون و261 ألف لبناني ولاجئ سوري وفلسطيني للفترة الممتدة من نيسان الماضي إلى أيلول المقبل. مع العلم أن عدد هؤلاء كان قرابة المليون للفترة الممتدة بين تشرين الأول 2023 وآذار 2024. وهذا يعني أنّ عدد الذين يعانون الجوع ارتفع بمقدار 211 آلاف شخص في غضون 3 أشهر.
التحليل الذي يتضمّن 5 مراحل تنتهي في المرحلة الخامسة إذ يصبح الوضع كارثياً، ويظهر أنّ 23 في المئة من عدد السكان اللبنانيين والسوريين أصبحوا في المرحلة الثالثة، أي مرحلة الأزمة. وبالتفصيل، يمكن تقسيم الأمن الغذائي خمس مراحل بحسب التحليل، كالتالي:
- 33 في المئة من السكان، أي نحو مليون و850 ألفاً لا يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويصنّفون في المرحلة الأولى.
- 44 في المئة من السكان، أي نحو مليونين و630 ألفاً، مجهدون، ويصنّفون في المرحلة الثانية.
- 23 في المئة من السكان، أي نحو مليون 176 ألفاً يعانون من انعدام الغذاء بشكل حاد، ويصنّفون في المرحلة الثالثة.
- 2 في المئة من السكّان، أي نحو 85 ألفاً في حالة صعبة جداً، ويصنّفون في الرحلة الرابعة – الطوارئ.
- 0 في المئة في المرحلة الأخيرة المعروفة بالكارثة.
توسّع النزاع سيضاعف معدّلات الجوع
هذه الأرقام التي وضعت إلى نهاية أيلول افترضت أنّ النزاع على طول الحدود الجنوبية لن يتصاعد إلى نزاع شامل، وأنّ منطقة التأثير الرئيسة للنزاع ستبقى ضمن دائرة نصف قطرها 7 كيلومترات على الحدود. مع احتمال زيادة أعداد النازحين إلى 140 ألفاً في أيلول بعدما كانت 91 الفاً في نيسان. وعليه، فإنّ توسّع الحرب سيزيد الضغط على هذه المؤشّرات. ولا سيما في المرحلتين الثالثة والرابعة. وسترتفع نسبة الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بسبب صعوبة الوصول إلى الغذاء، الذي العنصر الثاني الأساسي لضمان عدم حصول مجاعة. إذ تزداد في هذه المرحلة الاحتكارات، وتسود السوق السوداء وترتفع الأسعار بنسب هائلة. وهذا ما يقوّض كلّ المساعدات والجهود لمكافحة الجوع ويدفع بالمزيد من الأشخاص إلى ما دون خطّ الفقر والعجز عن تأمين ما يكفي من غذاء...
لم يتعب اللبنانيون على مدار السنوات الطويلة الماضية من تحويل التحديات إلى فرص، جرياً على الحكمة الصينية "في كلّ مصيبة هناك فرصة". إلّا أنّ "قطف" الفرص في لبنان مثل أكل السفرجل، "كلّ عضّة بغصّة" لصعوبة الظروف وكثرة المعوقات الخارجة عن الإرادة في شتّى المجالات.
1