يزخر تاريخ لبنان، الحديث خصوصاً، بأمثلة فاقعة عن الفشل في مكافحة الفساد. لكن ما جرى ويجري في العديد من الملفّات في كفة، والعجز عن "تنظيف" العقاريات في كفّة أخرى. ليس لكون الأخيرة أكثر أهمية أو خطورة، بل لأنّ عملية الإصلاح الغامضة التي بدأتها السلطة في أمانات السجل العقاري، انتهت بإبهام قلّ مثيله. وقد شكّلت هذه العملية برهاناً على العجز الفاضح في هيكلة أيّ إدارة، وأبرزت الحجم الهائل للتدخّلات السياسية والمحسوبيات المناطقية، الكفيلة بتجميد أيّ ملف مهما كان كبيراً. والنتيجة كانت عودة الأمور إلى ما كانت عليه، بعد تفويت مداخيل بآلاف المليارات على الاقتصاد والاستمرار في تعطيل مصالح المواطنين والشركات.

قبل نهاية العام 2022 انطلقت التحقيقات في أمانة السجل العقاري في بعبدا على خلفيّة شبهات فساد، تلتها تحقيقات وتوقيفات، وكرّ وفرّ في دوائر عاليه، وكسروان، والمتن، والشوف، وجبيل. مطلع العام 2023 كانت التحقيقات قد ختمت وأُحيلت الملفات إلى القضاء بعدما أوقف من أوقف ومن فر قد فر. بعد نحو عام، وتحديداً في كانون الثاني من هذا العام، ألزمت وزارة المال موظّفي عقاريات جبل لبنان العودة إلى عملهم، تحت طائلة اعتبار المتخلّفين عن الحضور مستقيلين حكماً. عاد الموظفون، ولكن الانتاجية لم تعد. ولم تتحسن جودة الخدمات إطلاقاً، والمعاملات مكدّسة بالآلاف تنتظر "لحسة إصبع" لتُنجز.

كارثة في انتظار أصحاب المعاملات

"ينتِظُر أصحاب المعاملات غير المنتهية منذ سنوات نتيجة الإهمال وعدم جدية التعاطي بملفات الناس الحياتية والعملية، كارثة حقيقية ستبدأ مع نهاية هذا الشهر"، يقول الخبير في الشأن العقاري الدكتور أحمد الخطيب. "فكل المعاملات التي لم تٌنجز إلى منتصف آب الجاري، ستُعتبر معاملات جديدة، وتطبّق عليها الرسوم الجديدة المقرّة في موازنة 2024. وسيتحمّل أصحابها تكاليف باهظة قد لا يكون لدى الكثيرين منهم القدرة على تسديد رسومها مع ما يتبعها من رشىً تفوق الحدّ الأدنى للدخل لأكثر من شهر".

في لبنان 16 أمانة سجل عقاري موزعة على المحافظات الست: بيروت، وجبل لبنان، والشمال، والبقاع، والجنوب والنبطية. وتتمّ في هذه الأمانات محاضر الانتقال، وقروض وتأمين، ومحاضر إفراز وإنشاءات، وبدل عن ضائع، وإشارات مالية ومحاكم، وحجوزات البنوك، وقيود احتياطية والضم والفرز. المشكلة الكبرى تكمن في أمانات سجل محافظة جبل لبنان التي تضمّ وحدها 6 أمانات من أصل الـ 16، وهي: بعبدا، الشوف، عاليه، المتن، جونيه، جبيل. ففي حين خطت أمانة سجل بيروت خطوة كبيرة جداً منذ تموز 2023 بإنجاز المعاملات، "لأنّ هناك أمين سجل قائم على إدارته، لا يسمح بخروج أحد من الإدارة قبل إنجاز المعاملات"، يقول الخطيب، "بقيت أمانات سجل جبل لبنان معطّلة بشكل أو بآخر". المعاملات الناقصة التي تصل إلى أمانة سجل بيروت مثلاً، والتي تتطلّب أي استفسار، يتمّ التحقق منها في الإدارة ومن خلال البحث في المستودع أو من أمين السجل المعاون، أو رئيس المكتب، ولا يعمد الموظفون إلى تسجيل المعاملة قيد احتياطي، ومن ثم تركها للمراجعة. في المقابل تتعطّل المعاملات في دوائر جبل لبنان، وخصوصاً في بعبدا، المتن، وجونيه حيث تشهد الأمانات كثافة معاملات كبيرة جداً مقابل عدد موظفين قليل جداً. وذلك على الرّغم من انتداب موظفين من خارج الإدارة لا يتمتّعون بالكفاءة المطلوبة. في حين أن المطلوب زيادة عدد الموظفين في هذه الدوائر وزيادة ساعات الدوام بشكل استثنائي. ذلك أنّ اليومين المخصّصين للمراجعات لا يكفيان"، بحسب أصحاب المعاملات. "من دون أن يعرف على وجه التحديد أسباب التأخير،وإن كانت هناك أسباب جدية تحول دون إنجاز المعاملات أو انتظار الرشوة". وبحسب العديد من أصحاب المعاملات، فإنّ "لا أحد من الموظّفين يطلب رشوة لإنجاز الملفات، إنّما ببساطة "ينيّمون الملف"دفع الإكرامية". وهناك معاملات مكدّسة منذ عامين ونصف العام.

في لبنان 16 أمانة سجل عقاري موزعة على المحافظات الست...

ندرة الموظفين الأكفّاء

تكمن المشكلة من وجهة نظر الخطيب بـ "ندرة الموظّفين الأكفّاء في هذه الإدارات، وأصحاب الضمير". فأوقات العمل المعمول بها مقارنةً بعدد المعاملات المكدّسة قصيرة جداً. وإن كان الدوام الرسمي يفترض أن يكون من 8 صباحاً حتى 3:30 بعد الظهر، يلحظ المواطنون عدم حضور الموظّفين قبل العاشرة صباحاً، ويخرجون قبل انتهاء دوام العمل. وحتّى اليومان المخصصان للمراجعات غير كافيين ويشهدان زحمة خانقة.

تفويت المليارات على الاقتصاد

خطورة ما يجري ليست محصورة في مراكمة الملفات وتأخير معاملات المواطنين وتحميلهم كلفة إضافية فحسب، إنّما في تفويت مداخيل كبيرة جداً على خزينة الدولة. إذ تقدّر الكلفة الإجمالية لإقفال الدوائر العقارية كلياً أو جزئياً في العام 2023، بحوالى 200 ألف مليار ليرة، تقارب ملياري دولار. فيما لو قورنت بنتائج العام الحالي. فبحسب بيانات المديرية العامّة للسجل العقاري، بلغ العدد التراكمي للمعاملات العقارية للنصف الأول من العام الجاري 16390 معاملة، بقيمة 1896 مليون دولار أميركي. وتظهر الأرقام أن عدد المعاملات العقارية في حزيران الماضي بلغ 3440 معاملة، مقارنةً بـ 871 معاملة في حزيران 2023. وهذا يعني أنّ عدد المعاملات خلال أشهر العام الماضي كانت أقل بنحو 75 في المئة عن هذا العام. وعليه، فإنّ الإيرادات المحققة تقلّ بالنّسبة نفسها تقريباً.

تكمن أهمية تفعيل العمل في هذه العقاريات في إنجاز معاملات المواطنين والمستثمرين. "الأمر الذي يطمئن أصحاب المعاملات بانتظام العمل العام وحصول كلّ صاحب حقّ على حقّه بالتساوي، وليس بقدر ما يستطيع أن يدفع لقاء تسريع معاملته"، بحسب الخطيب. "وهو ما يعود بالفائدة على مئات المشاريع والبيوعات المتوقّفة ويعيد تحريك العجلة الاقتصادية. خصوصاً أنّ هناك 70 مهنة ومصلحة ترتبط بشكل مباشر وغير مباشر بالنشاط العقاري".

عود على بدء، لم تؤدّ التوقيفات التي شملت نحو 68 موظفاً إلى محاكمات، فإلى الحبس أو الإفراج كما يفترض، بل تمّت تخلية سبيل الموظّفين، وبقيت الدعاوى قائمة. ثمة موظّفون تقدم باستقالات طوعية، ونُقل بعضهم إلى إدارات أخرى، وعادت الأغلبية إلى مراكز عملها السابقة. ونتيجة هذا التراخي، اطمأن بعض الموظفين غياب العقاب، فعاد ا إلى إساءة الآداب. وهم يتحجّجون، بحسب المعنيين، بتكدّس المعاملات، في حين أن المطلوب دفع الإكراميات.