برّدت تصريحات المسؤولين في الأيام الأخيرة حماوة المخاوف على الأمن الغذائي، في حال تخطّي الحرب "قواعد الاشتباك" المعمول بها منذ تشرين الأول الماضي. وبالفعل، لم تسجّل الأسواق تهافتاً على تخزين الغذاء والدواء والمحروقات كما كان يحصل أبّان الأزمات. وبالتالي لم تتحرّك الأسعار صعوداً. لا بل يمكن القول إنّها شهدت تراجعاً ملحوظاً ًلأسباب خارجية متعلّقة بأسعار النفط، وداخلية مرتبطة بالمنافسة، بحسب تأكيدات المعنيين. لكن بعيداً عن التطمينات التي قد تتلاشى كالأحلام مع بزوغ شمس النهار، ما هي القدرة الفعلية للاقتصاد اللبناني على مواجهة الأزمات؟ وما هي مقوّمات الصمود التي حالت لليوم دون تفاقم حالة الهلع؟

لا خوف على الأمن الغذائي

يُعيد المدير العام لوزارة الاقتصاد والتجارة الدكتور محمد أبو حيدر حالة الاستقرار التي تشهدها الأسواق، رغم ارتفاع المخاطر، إلى عدم إغلاق المنفذ البحري. فما دام "البحر مفتوحاً، ستكون البضائع والمحروقات والأدوية متوفّرة بالكمّيات المطلوبة"، هذا من جهة. أمّا من جهة أخرى، فإنّ "مخزون البضائع الأساسية يكفي أربعة أشهر"، يقول أبو حيدر. "وأُخرجت غالبية البضائع والمستوردات من المرفأ. وجرى تسريع تخليص معاملاتها بالتنسيق مع الوزارات والإدارات والمختبرات المعنيّة. ووزّعت على مخازن المستوردين المنتشرة في المناطق بالتعاون مع مستوردي المواد الغذائية والنقابات المعنية بهذا الشأن". وتحرص "الوزارة"، بحسب أبو حيدر، على مراقبة سلسلة الإمداد من المستورد إلى التاجر وصولاً إلى متاجر البيع بالتجزئة بشكل تفصيلي لضمان عدم الاحتكار والتخزين ورفع الأسعار. وقد حدّدت 50 سلعة أساسية من السلّة الاستهلاكية لمراقبة أسعارها يومياً.

ولم يلحظ نقيب أصحاب السوبرماركت الدكتور نبيل فهد أيّ تغيّر بالأسعار صعوداً. "بل بالعكس شهدت أصناف عدة تراجعاً ملحوظاً بالأسعار نتيجة العروض والتخفيضات التي تقوم بها المحالّ التجارية". ويرى أنّ "استمرار توريد البضائع بوتيرة طبيعية ومن دون انقطاع، يشكّل ضمانة للأمن الغذائي للمواطنين".

التطمينات انسحبت أيضاً على الدواء والمحروقات، إذ لم يلحظ المعنيون في القطاعين اتجاه المستهلكين إلى التخزين أو الشراء أكثر من حاجتهم لشهرين أو ثلاثة أشهر بالحدّ الأقصى. خصوصاً في ما يتعلّق بأدوية الأمراض المزمنة.

الاقتصاد عاجز عن تحمّل التكاليف

من الممكن أن نُطمئن ونَطمئِنّ على وجود بعض المخزون، ولكن "لا نستطيع الادّعاء أنّنا قادرون على مواجهة أيّ أزمة مهما كان نوعها، فما بالنا بحرب تدميرية"، يقول رئيس الاتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين الدكتور فؤاد زمكحل. فـ "لبنان خسر كلّ مقوّمات الصمود بعد 5 سنوات على ترك "حبل" أكبر أزمة مالية نقدية اقتصادية في العالم، على "جرار" عدم القيام بأيّ إصلاح بنيوي في الاقتصاد. من دون أن ننسى الإطلالة السريعة التي تسبق الضوء للسوق السوداء عند أيّ منعطف. وهو ما أثبتته التجارب بالأدلّة والبراهين. وهذا لا يؤدّي إلى فقدان السلع فحسب، إنّما إلى اقتناص ما تبقّى من قدرة صمود عند اللبنانيين وتوسعة هوّة اللامساواة بين الأفراد". يضاف إلى ذلك، بحسب زمكحل، خسارة لبنان كلّ الركائز الأساسية المالية والنقدية، بدءاً بالقطاع المصرفي والمستثمرين، مروراً بالثقة والاهتمام وتدحرج لبنان إلى أدنى سلّم الأولويات الدولية، وصولاً إلى خسارته عملته الوطنية وتصنيفها الأضعف عالمياً مع عجز فاضح عن استعادة جزء بسيط من قيمتها أو الثقة بها.

احتمال "التصنيف الرمادي" يزداد

الواقعية تفرض "ألّا نتفاءل وألّا نتشاءم، إنّما أن نسمّي الأمور بمسمّياتها ونضعها في نصابها الصحيح"، من وجهة نظر زمكحل. "فالاقتصاد اللبناني خسر 60 في المئة من حجمه، منحدراً من نحو 50 مليار دولار إلى نحو 20 ملياراً. وهو يعمل راهناً بشكل نقدي، "cash economy"، مع ما يترتّب على ذلك من مخاطر، خصوصاً إذا توسّعت الحرب، على تعزيز السوق السوداء، وإضافة طبقتين جديدتين: الأثرياء الجدد والفقراء الجدد. وبالتالي تعميق الفوضى والاختلالات في البنيتين الاقتصادية والاجتماعية".

غالباً ما ينتج من الحرب تعزيز الاقتصاد النقدي، واتّساع تجارة الأسلحة. وهما الأمران اللذان تراقبهما المؤسسات الدولية، وفي مقدّمتها مجموعة العمل المالي "فاتف"، عن كثب. وأيّ اختلال إضافي في بنية الاقتصاد وعدم النجاح في تطبيق الإصلاحات المطلوبة يعرّضان لبنان بشكل متزايد إلى الإدراج على اللائحة الرمادية لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، التي تصدرها المجموعة في أيلول المقبل.

وعليه، فإنّه في وقت ينصبّ التركيز على الصمود، يرى زمكحل أنّ "المطلوب هو العودة إلى النمو، وهذا لا يتحقّق إلّا من خلال الانصراف نحو الاهتمام بالأمور الداخلية وتحقيق الإصلاحات على المستويين السياسي والاقتصادي، وليس إضاعة المزيد من الوقت الذي يدفّع لبنان الثمن الأغلى، ويحرمه من الفرصة البديلة التي قد تساعد في الخروج من المحن والأزمات".

القطاعات تعاني

على الصعيد الصحّي، طفا العجز عن علاج النازحين السوريين المصابين بالحرب على واجهة الأحداث، حيث أعلنت نقابة المستشفيات في لبنان أنّها غير قادرة على تحمّل علاج المصابين السوريين. وتكمن خطورة هذا الواقع في وجود نحو مليوني سوري في لبنان، يشكلون نسبة تراوح بين 35 و 40 في المئة من عدد السكان، ستعجز الحكومة عن مساعدتهم في حال توسع الحرب، أو ستتكلف مبالغ تفوق طاقتها. خصوصاً من بعد إلزام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، السوريين بتسديد 30 في المئة من فاتورة الاستشفاء، بالإضافة إلى المبلغ الأوّلي الذي هو 100 دولار أميركي، ابتداءً من الأول من كانوًن الثاني 2024. وعليه، طالبت نقابة المستشفيات الهيئات الدولية التي تعنى بالسوريين "العمل لتأمين تغطية نفقات علاج المصابين منهم في المستشفيات لعجز الأخيرة عن تحمّل تبعات العلاج". وذلك "انطلاقًا من الأوضاع السائدة في البلد وتهديدات العدو الإسرائيلي بشنّ حرب عليه، إضافةً إلى الاعتداءات الحاصلة حالياً بشكل يومي، والتي ينجم عنها إصابات تستدعي نقلها إلى المستشفيات لتلقي العلاج".

خسارة الفرصة البديلة

إضافة إلى إجهاد القطاعات الأساسية وعجز الحكومة عن تحمّل التكاليف المادية واضطرارها إلى العودة إلى التمويل من مصرف لبنان، مع ما يرافق ذلك من مخاطر على سعر الصرف والاستقرارين الاقتصادي والاجتماعي، فإنّ لبنان خسر الفرصة البديلة، أو ما يعرف بعلم الاقتصاد Opportunity Cost. وهذه التكلفة باختصار هي تكلفة الفرصة التي يتمّ التخلّي عنها عند اتخاذ قرار معيّن، أي أنّها تمثّل التكلفة الحقيقية لاتخاذ القرار. الدخول في الحرب كبّد لبنان 3 مليارات دولار خسائر في قطاع السياحة بحسب الأمين العام لاتحاد المؤسسات السياحية جان بيروتي، أي ما يمثّل خسارة 50 في المئة من العائدات التي كان من المنتظر تحقيقها هذا العام مقارنة بالعام الماضي. ومن المعلوم أنّ النمو بنسبة 1 في المئة في الإيرادات السياحية يؤمّن زيادة بنسبة 0.36 في المئة بالناتج. كما خسر لبنان نحو 20 في المئة من الناتج، تُقدّر بـ 4 مليارات دولار أقلّه، نتيجة تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي والخدماتي في الجنوب خصوصاً، وفي لبنان عموماً. وفوّت الاقتصاد إمكانية تحقيق نموّ بنسبة كان من المتوقّع أن تراوح بين 0.5 و1 في المئة.

كلّ هذا يضعنا في مواجهة حقيقة مرّة، خلاصتها أن لبنان غير قادر على مواجهة طوفان مائي، فما بالنا بحرب إن لم تقضِ على الاقتصاد كلّياً، فستشلّه وتبعد إمكانية تعافيه المؤجّل إلى أمد غير محدد.