انتظر اللبنانيّون تحسّن الكهرباء بعد زيادة الأسعار أكثر من مئتي ضعفٍ، فأصابهم ما أصاب "من أخذ القرد على ماله، فذهب المال وبقي القرد على حاله". وثقوا بأضاليل المسؤولين أن المشكلة تكمن في التعرفة المتهاوية، "بلعوا" رفعها منذ عامين إلى معدّلات قياسية، فكانت النتيجة استنزاف موارد الأُسر والمؤسسات المالية من دون أن تتأمّن الكهرباء، ولو بالحدّ الأدنى. فعاد بذلك لبنان إلى تصدّر المرتبة الأولى عالمياً بأعلى كلفة لأدنى خدمة على الإطلاق في الكهرباء. وذلك بعدما كسر أرقاماً قياسية في الاتصالات والصحّة والنفايات وغيرها الكثير من الخدمات.
مجدّداً، أعلنت مؤسسة كهرباء في بيان عن "خروج فجر يوم الأربعاء الواقع فيه 07/08/2024، معمل دير عمار عن الخدمة قسرياً، جرّاء نفاد خزّانه من مادّة الغاز أويل. وبقيت في الخدمة مجموعة وحيدة في معمل الزهراني من أجل تغذية المرافق الحيوية الأساسية في لبنان (مطار، مرفأ، مضخّات مياه، صرف صحي، سجون، إلخ)، علماً بأنّه من المرتقب أن تخرج تلك الأخيرة أيضاً عن الخدمة يوم السبت الواقع فيه 17/08/2024 على أبعد تقدير جرّاء نفاد مادة الغاز أويل في حينه في معمل الزهراني أيضاً. وذلك إذا ما استطاعت المؤسسة المحافظة على ثبات الشبكة الكهربائية". وأعادت الكهرباء السبب إلى "عدم تخصيص حتى تاريخه، أيّ شحنة بموجب اتفاقية المبادلة المبرمة بين الجمهورية العراقية والجمهورية اللبنانية، ليتم مبادلتها من قبل وزارة الطاقة والمياه – المديرية العامة للنفط، بشحنة من مادة الغاز أويل لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، لا خلال شهر تموز الفائت ولا لشهر آب الحالي".
لبنان غارق في الظلام
ترجمة بيان "الكهرباء" التقني بالعجز عن انتاج أكثر من 200 ميغاواط، من أصل حاجة تتجاوز 3500 ميغاواط، يعني فعليّاً أنّ لبنان غارق في الظلام. وباستثناء المنشآت الحيوية، فإنّ الكهرباء مقطوعة 24/24 عن كلّ المناطق وعلى مساحة الوطن إلى أمد غير محدّد. هذا الخلل ناتج من "واقع قديم جديد، معقّد، تتداخل فيه السياسة مع الإهدار والفساد ومصالح المافيات"، يقول رئيس "لجنة الأشغال والطاقة والمياه النيابية"، النائب سجيع عطية. فالحكومة اللبنانية وقّعت اتفاقية مع الجانب العراقي في العام 2021، تقضي بحصول لبنان على مليون طن من الفيول الأسود الثقيل لمدّة عام مقابل تسديد الثمن بالليرة. تبلغ قيمة الصفقة حوالى 465 مليون دولار أميركي، يدفعها لبنان بالليرة على أساس سعر منصة صيرفة، بعد عام من سريان الاتفاقية. ويستفيد الجانب العراقي من الأموال المحوّلة إلى حساب خاص في مصرف لبنان بشراء سلع وخدمات صحّيّة واستشفائيّة من لبنان.
الفيول العراقي بالدولار النقدي
الاتفاقية التي وقّعت مع العراق وصادق عليها مجلس النواب كانت لمدة عام فحسب. ثم أصبحت تجدّد على مستوى الحكومات. فوافق العراق على تزويد لبنان مليون طن آخر في العام 2023، و1.5 مليون طن للعام 2024. "هذه العقود أبرمت وتجدّدت من دون رجوع الحكومة اللبنانية إلى مجلس النواب، المنوط به دستورياً الموافقة على الاتفاقات بين الدول"، يقول عطية. "وما دام ليس هنالك قانون مختص بالاتفاقية ينصّ صراحة على صرف مبالغ مالية محدّدة، لا يمكن لمصرف لبنان تسديد المبالغ أو تحويلها إلى الخارج بالعملة الأجنبية وفق مراسيم أو قرارات من الوزراء أو حتى مجلس الوزراء. خصوصاً أنّ المبالغ التي يترتّب على لبنان دفعها عن الصفقتين الأخيرتين بمقدار مليونين ونصف المليون طن من الفيول، وبقيمة 1.2 مليار دولار تقريباً، لن تكون على سعر صرف 15 ألف ليرة، إنّما على سعر صرف السوق 89500 ليرة". وترافق هذا الواقع مع إيقاف رئيس الحكومة المنصّة المزمع إطلاقها لتحديد سعر للصرف وتحويل الأموال، بعدما تبيّن أنّ كلفتها 3 ملايين دولار، وانتهاء منصّة صيرفة، ونوم المسؤولين على حرير إمكانية إعفاء لبنان من الالتزامات وتحويلها إلى هبة.
إيرادات الكهرباء عاجزة عن شراء الحدّ الأدنى من الفيول
عندما سارت الحكومة بالاتفاقية الأولى مع العراق، كانت التوقّعات أنّ عائدات الكهرباء من التعرفة الجديدة كفيلة بتأمين كفايتها من الفيول. إلّا أنّ هذا لم يحصل نتيجة بضعة أسباب، ليس أقلّها أهمّية "ارتفاع نسبة الهدر الفنّي وغير الفنّي إلى حدود 60 في المئة"، بحسب توقّعات الخبراء. وعدم تسديد الفواتير عن المؤسسات العامة، وتأخّر الجباية لمدة عام، وارتفاع التكاليف التشغيلية بنسبة كبيرة جداً. هذا الواقع يعيدنا إلى الحلقة المفرغة التي كانت تدور فيها شركة الكهرباء قبل رفع التعرفة، والتي كبّدت الاقتصاد خسائر بقيمة 40 مليار دولار. فهي تطلب من الدولة تسديد ثمن الفيول بالليرة من خلال سلفات، على أن يحوّله مصرف لبنان إلى الدولار على سعر صرف السوق. الأمر الذي لم تعد مفاعيله تقتصر على استنزاف احتياطي العملات الأجنبية فحسب، إنّما التأثير سلباً في سعر الصرف والتهديد بعودة ارتفاعه إلى معدلات قياسية، وبالتالي تقويض كلّ السياسة النقدية التقشّفية المّتبعة بشكل صارم منذ نحو عام لضمان الحدّ من اضطرابات سعر الصرف.
الأضاليل مستمرة
إزاء هذا الواقع المؤلم، يستمرّ التضليل على أوسع نطاق. إذ وصف وزير الطاقة والمياه وليد فياض الموجود في الصين حالياً، في حديث تلفزيون، إمكانية استئناف العراق تزويد لبنان شحنتي الفيول المعلّقتين لشهري تموز وآب، بـ "الانفراج الهائل". مع العلم أنّ من شأن الشحنتين، اللتين لن تتجاوز سعتهما 100 ألف طن من الفيول الأسود الثقيل، أن ترفعا انتاج الكهرباء إلى 600 ميغاواط حدّاً أقصى، تؤمّن بين 5 و6 ساعات تغذية يومياً، لمدّة محدودة. ولم يتوان فياض عن إلقاء اللوم على مصرف لبنان بعدم تحويل ثمن الفيول إلى العراق، واصفاً سلوك المركزي بـ"المتلكّئ". مع العلم أن تأكيده في الجملة نفسها "انتظار انعقاد مجلس النواب لتأمين التغطية التشريعية للعقد المستمر مع العراق. هذا الوضع الكارثي يتطلّب وساطات مكثّفة مع رئاسة الحكومة ووزارة النفط العراقية لتسيير الشحنة الشهرية بموافقة استثنائية في كلّ مرة، وهذا ما يعكس تعقيدات لا تنتهي".
إضراب الموظّفين يفاقم الازمة
عدا أزمة الفيول العراقي، خسرت الشبكة 20 ميغاواطاً إضافية من المعامل الكهرومائية في قاديشا والأوّلي وجون، بسبب إضراب نقابة عمّال ومستخدمي مؤسسة كهرباء لبنان، ونقابة عمال ومستخدمي المصلحة الوطنية لنهر الليطاني إلى الاثنين المقبل. أتى هذا التحرّك إثر إصدار وزير المال يوسف الخليل كتاباً رفض بموجبه تطبيق مرسوم الزيادات على الرواتب والأجور للعاملين في المؤسستين. هذا يعني إبقاء رواتب الموظفين والأجراء في مصلحة الليطاني ومؤسسة كهرباء لبنان مضاعفة 7 مرات، لا 9 مرات على غرار رواتب موظفي الإدارة العامة، كما منع قرار الخليل عنهم تقاضي بدلات البنزين والمثابرة.
حتّى لو سلّمنا جدلاً بانتظام شحنات الفيول العراقي، ووصولها في الوقت المناسب فهي عاجزة عن تأمين استقرار الكهرباء. خصوصاً أنّ انتاج الكيلوواط ساعة يتطلّب في لبنان 400 غرام من الفيول، في حين أنّ المتوسط هو 200 غرام"، يقول عطية. الأمر الذي يقودنا إلى أنّ نسبة الهدر لا تقلّ عن 50 في المئة في أحسن الأحوال. وهذا يعود، برأي عطية "إلى عمل المعامل، ولا سيما الزهراني ودير عمار على المازوت الأعلى ثمناً والأقلّ كفاءة، وحاجتها إلى الصيانة".