يمتنع تجّار وصرّافون عن صرف الفئات الكبيرة من الدولار وتحويلها إلى ليرات. ولو قُدّر للقطاعات التجارية والخدماتية امتلاك "فكّة" الدولار الواحد من السنتات، لما شاهدنا العملة الوطنية في التبادل إطلاقاً. فالليرة بحسب وصف خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي ما زالت موجودة لفقدان الفئات الصغرى من الدولار، "الفراطة". وهذا الواقع ليس محض مصادفة، إنّما نتيجة طبيعية للسياسات النقدية المتّبعة منذ بدء الانهيار عموماً، ومن بعد تسلّم القيادة الجديدة في مصرف لبنان دفّة القيادة في صيف 2023.

عدم توفّر الليرات قد يسبّب إزعاجاً للذين يضطرون إلى تسديد بعض الفواتير والرسوم والضرائب بالعملة الوطنية. خصوصاً أنّ بعض المعاملات تتطلّب الدّفع بالليرة حصراً، في حين تتعمّد بعض مؤسسات الدولة احتساب سعر الصرف على أساس 88 ألف ليرة للدولار الواحد. و"لكي نخفّف من "اقتناص" الدولة لنا، ونحدّ من شعورنا بالغبن لدى انجازنا كل معاملة، نحاول صرف الدولارات ليراتٍ لتسديد بعض الفواتير، مثل فاتورة الهاتف وغيرها، فنصطدم بعدم توفّر ليرات كافية"، يقول أحد المواطنين. "وهذا ما لا نفهم سببه إطلاقاً. إذ كيف يمكن تفسير شحّ العملة الوطنية، وتوفّر الأجنبية بكمّيات وسقوف غير محدودة، وما الهدف من ذلك؟".

الأسباب التقنية وراء شحّ الليرات

"الجواب عن أسباب فقدان الليرة من الأسواق ينقسم شقّين أساسيين: الأول، آني تقني. والثاني تاريخي سياسي. من الناحية التقنية تقوم السياسة النقدية منذ ما قبل تسلْم نوّاب الحاكم مقاليد إدارة مصرف لبنان على تجفيف الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من السوق"، يقول محمد فحيلي. إذ تراجعت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية M0 إلى نحو 60.5 ألف مليار ليرة بحسب أرقام مصرف لبنان. يترافق ذلك مع إرغام قطاعات البيع بالتجزئة على استعمال ما تتقاضاه من مبالغ وازنة يوميّاً بالليرة من أجل تسديد الضرائب والرسوم نقداً. وذلك من بعد رفض وزارة المال قبول التحاويل المصرفية أو تسديد المبالغ كاملة عبر الشيكات المصرفية. وقد أصبحت قيمة المدفوعات كبيرة جدّاً من بعد زيادة الرسوم واحتساب سعر صرف الدولار الجمركي على أساس سعر صرف السوق في موازنة 2024. وهذا ما دفع بالتجار إلى الاحتفاظ بمقبوضاتهم بالليرة لتسديد المتوجّبات الضريبية. من جهة أخرى، يؤدّي شح الليرات وزيادة الطلب عليها إلى ارتفاع فائدة "الانتربنك" بين المصارف، وهي الفائدة على الإقراض لليلة واحدة. وهو ما يدفع المصارف إلى تقليص مدفوعاتها بالليرة، ووضع ضوابط على السحوبات، من أجل تخفيف التكلفة. يساعد على ذلك الاستنسابية المطلقة في التعامل وعدم وجود قواعد واضحة كـ "الكابيتال كونترول" من أجل تحديد سقف السحوبات. فتتفرّد مصارف بتحديد كميات السحوبات، ويعمد بعضها إلى تحويلها دولاراً على سعر صرف يتفق عليه مع الزبائن من خارج السعر البائد 15 ألف ليرة، وأقل، طبعاً بما لا يقاس، من سعر صرف السوق.

السياسة النقدية تقوم على "تخفيف الأوجاع وليس على معالجة المرض"...

العودة بالتاريخ إلى بداية الأزمة

"لفهم السياسة النقدية "يجب العودة إلى العام 2020، وتحديداً إلى 9 نيسان، تاريخ إصدار مصرف لبنان التعميم 150"، يقول محمد فحيلي. وهو التعميم الذي نص على "إعفاءات استثنائية من توظيفات المصارف الإلزامية"، وهدف إلى "تشجيع ضخّ الدولار في شرايين الاقتصاد من بعد إعلان الدولة التخلّف عن سداد الديون مطلع ذلك العام". وذلك من خلال إعفاء المصارف من التوظيف الإلزامي مقابل الأموال المحوّلة من الخارج نقداً بعد 9 نيسان 2020. مقابل ضمان حرية استعمال الأموال وإيداع ما يوازي 100 من قيمة الأموال المشار إليها نقداً لدى المصارف المراسلة في الخارج بحساب حرّ من أيّ التزامات. من ثم أصدر مصرف لبنان التعميم الأساسي 157، المتعلّق بإجراءات استثنائية بشأن العمليات على العملات الأجنبية تاريخ 10 أيار 2021، sayrafa. ثم تبعها التعميم الأساسي 161 تاريخ 16 كانون الأول 2021 الذي نصّ على تزويد المصارف بالدولار النقدي على أساس سعر الصرف المعلن بشكل يومي لليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي لعمليات التداول المنفّذة على المنصّة الالكترونية لعمليات الصرافة Sayrafa. كما سمح بتحويل رواتب القطاع العام إلى الدولار على سعر صيرفة. صحيح أنّ الأخيرة أوقف العمل بها، إلّا أنّ رواتب القطاع العام لا تزال تسدّد بالدولار على سعر صرف 89500 ليرة، إذ يطمح مصرف لبنان إلى استمرار تخفيف الضغط على الدولار في كتلة الرواتب والأجور الكبيرة، التي يقدّر أنّها أصبحت حوالى 120 مليون دولار شهرياً. ولاحقاً انتقل لبنان إلى تخفيض سعر الصرف من 1500 ليرة إلى 15000، وتبعتها مباشرة دولرة الأسعار ومن ثم استمرار مصرف لبنان في الالتزام بتسديد رواتب القطاع العام بالدولار، وتنبيه المصارف التجارية إلى مغبّة الاستمرار في التعاطي الاستنسابي والزبائني على منصّة صيرفة. خصوصاً في ما يتعلّق بالتعميم الأساسي 157. و"مما يتبيّن من كلّ ذلك اصرار السلطة النقدية على ضمان استقرار سعر الصرف بغضّ النظر عن الرقم الذي يثبت عنده"، بحسب فحيلي. "إذ يرتكز الهمّ على إيقاف الاختلالات والاضطرابات في الاقتصاد التي يسببها التفاوت الحاد في سعر الصرف".

تخفيف الأوجاع وليس معالجة المرض

هذه السياسة النقدية التي تقوم على "تخفيف الأوجاع وليس على معالجة المرض"، من وجهة نظر فحيلي، "لا غنى عنها ما دامت السلطة السياسية تتخلّف عن القيام بالإصلاحات الضرورية من جهة، وتهمل تحصيل الإيرادات الكافية لتمويل نفقاتها من جهة أخرى". وبرأيه لن يتغير هذا الواقع "إلّا في حال تطوّر الحرب وعجز الدولة عن تأمين الإيرادات اللازمة للقيام بالواجبات. عندئذ يصبح مصرف لبنان ملزماً بتمويلها، لكن ليس بشكل مطلق". ومن المرجح، بحسب فحيلي، أن "تكون عمليات شراء الدولار بما توفر من ليرات التي قام بها المركزي، وجولات حاكمه بالإنابة على الدول القريبة والصديقة، قد رمت إلى "ادّخار القرش الأبيض إلى اليوم الأسود"، وبحث إمكان توفير السيولة الخارجية في حال تطوّر الأحداث من أجل تشكيل حزام أمان اجتماعي". ولكنْ "لا خوف في جميع الحالات على تدهور سعر الصرف لأنّ التداول بالليرة شبه معدوم".