نأى لبنان بنفسه عن العاصفة التي ضربت الأسواق المالية يوم الاثنين الماضي في الخامس من آب. عدم تأثّره بشكل مباشر باهتزاز أسواق الأسهم عالمياً، الذي أعاد إلى الأذهان أكثر من "إثنين أسود" في خريف 1987، وآذار 2020، لم يكن نتيجة "شطارة" القيّمين على البورصة، أو بسبب قوة الاقتصاد اللبناني ومتانة أسهمه وسنداته، إنّما نتيجة طبيعية لفقدانه السوق المالية، وانهيار سنداته الدولارية قبل نحو أربع سنوات.
انطلاقاً من أنّ "فاقد الشيء لا يعطيه"، فهو لا يخسره أيضاً. إنّما هل يعني هذا عدم تأثّر المستثمرين اللبنانيين بما ضرب الأسواق من آسيا، مروراً بأوروبا، ووصولاً إلى أميركا؟ وهل يكون لانخفاض الأسواق العالمية تداعيات إيجابية أم سلبية على الاقتصاد اللبناني في الأمد القريب؟
الاثنين الأسود يخيّم على البورصات العالمية
يوم الاثنين الماضي، افتَتحت البورصات العالمية التداولات على تراجع في مختلف أسعار الأسهم الحالية والعقود الآجلة. وقد نتج هذا الهبوط المفاجئ من ثلاثة عوامل أساسية:
- صدور تقرير مخيّب للآمال عن سوق العمل في الولايات المتحدة الأميركية يوم الجمعة قبل العطلة الأسبوعية للأسواق المالية. وقد أظهر ارتفاع معدّل البطالة إلى 4.3 في المائة على نحو غير متوقّع، فأثار ذلك المخاوف من ركود اقتصادي وشيك.
- رفع المركزي الياباني سعر الفائدة ربع نقطة مئوية – 0.25 في المئة، مطلع آب الحالي.
- التوترات العسكرية واحتمال توسّع الحرب في الشرق الأوسط، مع ما ستتركه من آثار حتمية على النفط والغاز.
الأسواق قرأت سريعاً المتغيّرات، فخيّم البيع الكثيف للأسهم في آسيا وأميركا تحديداً، وتلوّنت شاشات البورصات العالمية بالأحمر. ساعد على ذلك قفز مؤشر الخوف "VIX" الذي يقيس التقلّبات في سوق الأسهم الأميركية لأعلى مستوى له منذ تفشّي جائحة كورونا في العام 2020، ووصوله إلى 52 نقطة. وعليه، هبطت المؤشّرات العملاقة للأسهم العالمية مثل "نيكي" الياباني، "وتوبكس"، و"كوسبي" الكوري، و"تايكس" التايواني، و"ناسداك" الأميركي، و"فوتسي" الأوروبي. وخسرت البورصات آلاف مليارات الدولارات. وقدّرت خسارة البورصة الأميركية وحدها بـ 1930 مليار دولار، كما انخفض الدولار إلى أدنى مستوى له منذ العام 2022. وتراجعت قيم العملات المشفّرة. وانخفضت "البتكوين" 15 في المئة إلى 50 ألف دولار. كما تراجعت أسعار النفط.
الإيجابية الوحيدة وسط هذا المشهد الضبابي تمثّلت بتراجع أسعار النفط عالمياً...
لبنانياً، ما هي التداعيات؟
خسائر الأسهم والعملات المشفرة
لأنّ اللبناني بـ "كل عرس له قرص"، فإنّ الخسارة الفردية للمستثمرين اللبنانيين كانت كبيرة. خصوصاً مع "توجّه شريحة كبيرة منهم للاستثمار في الأسهم الأميركية والعملات المشفّرة بشكل كثيف منذ بدء الأزمة المالية في العام 2020، وانهيار القطاع المصرفي"، يقول مدير العلاقات العامة في شركة "سي أف آي للاستثمار" جاد شكر. وقد حرص اللبنانيون طوال السنوات الأربع الماضية على توظيف المتبقّي من أموالهم، أو المخزّن في المنازل، او الناتج من بيع أصول وأراضٍ في الأدوات المالية التي تحقّق ربحاً سريعاً وكبيراً، وفي فترة زمنية قصيرة، مثل العملات المشفّرة. وذلك من أجل تعويض خسارتهم الفوائد المصرفية، وتحسين قدرتهم الشرائية. ونتيجة هذا الواقع أدّى "تحرك مؤشّر "ناسداك" الأميركي بـ 1800 نقطة نزولاً بواحد من أسوأ التحرّكات منذ العام 2020، إلى تعميق خسارة المستثمرين في أنحاء العالم ومنهم اللبنانيون"، بحسب شكر. خصوصاً أنّ مؤشّر ناسداك يصنّف ثانية أكبر البورصات في العالم، بعد بورصة نيويورك. وهو يضمّ عمالقة التكنولوجيا مثل "آبل" و"غوغل" و"مايكروسوفت" و"أمازون" وهي الشركات التي تستقطب أسهمها طلباً هائلاً، خصوصاً في أوساط الشباب.
خسائر الذهب
بالتوازي مع خسائر الأسهم، دفعت عودة بعض المصارف المركزية إلى رفع أسعار الفائدة للحدّ من الآثار التضخّمية، والتوقّع بعدم اتجاه البعض الآخر، ولاسيّما الفيدرالي الأميركي، لتخفيضها رغم تهديدات الكساد المتوقّع والذي يمكن أن يؤدي إلى تراجع أسعار الذهب. فالملاذ الآمن، الذي لجأ إليه اللبنانيون بكثافة خلال أعوام الانهيار لحماية قيمة مدخّراتهم، آملين ارتفاع أسعاره، يرتبط بعلاقة عكسية مع الفائدة. فكلّما ارتفعت الأخيرة تراجع الذهب، والعكس صحيح. وعلى هذا الأساس، تراجع سعر أونصة الذهب نحو 100 دولار، من نحو 2460 إلى 2372 دولاراً. و"الذي يحصل أنّه بمجرّد رفع الفائدة يعمد المستثمرون إلى سحب استثماراتهم، والتوجه بها إلى العملات كونها آمنة أكثر وتحقّق أرباحاً أعلى"، يقول شكر. وهذا ما عمّق خسائر البورصات وعزّز موقع الين الياباني.
هذا الواقع السوداوي ترافق مع الضغوط السياسية والخشية من توسّع الحرب في الشرق الأوسط. واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. "من دون أن ننسى إمكانية تدخّل المرشّح الرئاسي دونالد ترامب في الأسواق، لإظهار أهمية وصوله إلى الرئاسة لضمان استقرار الأسواق المالية وارتفاع الأسعار"، يضيف شكر. "خصوصاً أنّ الرجل لعب دوراً أساسياً في رفع الأسواق ومساعدة المستثمرين ورجال الأعمال".
التراجع الكبير في أسعار الذهب ليس محصوراً في خسارة المستثمرين، وتراجع قيمة احتياطي الذهب من مجمل احتياطي العملات الأجنبية في المصرف المركزي (286.8 طن)، والذي قدّرت قيمته بحسب آخر ميزانية نصف شهرية لمصرف لبنان بحوالى 22 مليار دولار.
الرافعة المالية
إذا ما أضفنا خسائر الرافعة المالية، "ترتفع مجمل خسائر اللبنانيين شعباً واقتصاداً إلى إضعاف تلك الأرقام المحققة"، ومن وجهة نظر شكر. "إذ تسمح الرافعة المالية للمستثمرين بشراء كمّية أكبر من الأصول بكمّية قليلة من رأس المال، وهذا ما قد يؤدّي إلى تضخيم المكاسب أو الخسائر على السواء".
لا حصّة للسندات من الخسائر
في الوقت الذي يتكبّد فيه المستثمرون اللبنانيون في الأسهم والعملات خسائر كبيرة، تراجعت خسائر المستثمرين بالسندات ولا سيّما منها الحكومية. "فهذه الشريحة من المستثمرين شبه مفقودة في لبنان"، بحسب شكر. "ذلك أنّ العوائد على السندات قليلة ولا تتجاوز 5 في المئة سنوياً، فيما مردود الأسهم ولا سيما للشركات التكنولوجية والعملات المشفرة أكبر بكثير، وأسرع بما لا يقاس؛ إلّا أنّ مخاطرها أيضاً أبكر. وهذا ما عمق الخسائر".
تراجع أسعار النفط... مؤقّتاً
الإيجابية الوحيدة وسط هذا المشهد الضبابي تمثّلت بتراجع أسعار النفط عالمياً. الأمر الذي انعكس انخفاضاً بأسعار مبيع المحروقات داخلياً. بيد أنّ هذا التراجع قد ينقلب سريعاً لارتفاع صاروخي في حال توسّع رقعة الحرب في الشرق الأوسط وتأثّر الملاحة في البحر الأحمر ومضيق هرمز، اللذين يمرّ عبرهما ما لا يقلّ عن 35 في المئة من إنتاج النفط اليومي على الصعيد العالمي.
خلافاً لكلّ الأزمات العالمية التي يتأثّر فيها لبنان بقوة نتيجة هشاشته، كان دوره هذه المرة تعداد العصي التي تنهال على الأسواق المالية العالمية، فيما مواطنوه يتلقّون الضربات "ع السكت"، لتضاف إلى أوجاع السطو على ودائعهم وفقدان عملتهم لقيمتها وانعدام آمالهم بأيّ إصلاحات مستقبلية.