يسير لبنان بقدميه نحو الخراب إن لم يكن عاجلاً، فآجلاً. والسبب ليس الانهيار الاقتصادي، أو الحرب المحتملة أو الفراغ المؤسساتي أو أموراً كثيرة أخرى، صحيحة، قد تتبادر إلى ذهن الكثيرين سريعاً، إنّما لغياب العدل. وقد قال العلماء عن العدل والملك كثيراً، ليبقى الأكثر تعبيراً ومباشرة ما ذكره ابن خلدون في مقدمته الشهيرة إنّ "الظلم مؤذن بخراب العمران".

اللاعدالة التي أضاءت في الأعوام الأربعة الأخيرة بالأحمر القاني في سرقة الودائع، وتفجير المرفأ، وعدم الحسم في أيّ من ملفّات الفساد الكثيرة، تدرّجت نزولاً إلى التمييز بين موظّفي القطاع العام. وقد لفت نظر الموظفين قرارٌ صادر عن وزارة المال تحت الرقم 742/1، تاريخ 22 تموز 2024، ينصّ على إعطاء بعض العاملين في مديرية هذا الوزارة مكافأة بدل إنتاجية. وتبلغ قيمة المكافأة الشهرية 50 مليون ليرة بالحدّ الاقصى، تستحق للذين عملوا خارج أوقات الدوام الرسمي، وأيّام العطلات الرسمية، وفي ظروف استثنائية، وبمفعول رجعي اعتباراً من أول آذار 2024. وهذا يعني أنّ الموظفين المحدّدين سيتقاضون 250 مليون ليرة مكافأة (2777 دولار تقريباً)، وزيادة 50 مليوناً على الراتب ابتداء من نهاية تموز إلى تاريخ لم تحدّد نهايته.

الاستنسابية في تسديد الرواتب والأجور

"ما أضيق عينكم"، قال أحد المعنيين بنبرة لا تخلو من اللوم. "فكلّ هذه الإضافة (555 دولارا، شهرياً على سعر صرف 90 ألف ليرة) مع ما نتقاضاه من رواتب، وحوافز، وصفائح بنزين، لا تعوض ما خسرته الرواتب منذ بدء الازمة. هذا عدا ساعات العمل الإضافية في قطوعات الحساب: حساب المهمة، وإنجاز المعاملات المتراكمة، وإدخال المعلومات، وتحضير الرواتب مع كل تعقيداتها وإصدار "فيش" القبض وغيرها من المهمات".

أين تكمن المشكلة؟

كلّ هذا صحيح. مقدّر ومستحقّ. إنّما هناك أمران أساسيان يجب التوقّف عندهما:

الأول شكلي، يتعلّق بالعائق الذي يحول دون إصدار قطوعات الحسابات للدولة منذ سنوات، ما دامت تُنجز! والسبب وراء الفروقات الكبيرة في رواتب الموظفين بين شهر وآخر وعدم تضمينها جميع الإضافات.

الثاني في المضمون، وينقسم 3 عناوين:

التمييز بين بعض موظّفي وزارة المال وبقية الموظّفين بشكل عام، وبينهم وبين موظفي الإدارة بشكل خاص. فكلّ الموظفين يعملون فوق طاقتهم، ويترتّب عليهم الكثير من الأعمال الإضافية، نتيجة الإضرابات والتعطيل فترات طويلة، لأسباب طبيعية أو غير طبيعية. كما أنّها ليست المرّة الأولى التي تُمرّر فيها "مكافآت" لبعض موظّفي وزارة المال والهيئات التفتيشية تحت ذرائع مختلفة، مع ما تسبّبه من نقمة في بقية الإدارات. ولعلّ المثال الأدلّ على ذلك تهديد المراقبين الجويين بتعطيل مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري الدولي عن الخدمة الليلية نتيجة عدم تعديل بدل الأتعاب عن الورديات وتسديد 3 دولارات بدلاً عن الساعة الواحدة. وذلك على عكس ما حصل في الجمارك حيث حدّد في العام 2023 أجر السّاعة الليلية لموظف الفئة الثانية بـ 1.5 مليون ليرة تعادل 16.5 دولار بسعر صرف اليوم.

عدم تناسُب الأُعطيات مع ما تنصّ عليه القوانين والقرارات بشأن المكافآت واحتساب ساعات العمل الإضافية "الورديات". فبحسب قانون سلسلة الرتب والرواتب – 2017 عيّن الحدّ الأقصى لساعات العمل الإضافية بـ 35 ساعة شهرياً. وتحتسب الساعة على أساس قيمة الراتب مقسّماً على 150 (عدد ساعات العمل في الشهر). وإذا افترضنا في حالتنا الراهنة أنّ أساس الراتب لموظّف فئة ثانية 3 ملايين ليرة، فإنّ بدل الساعة الإضافية يبلغ 20 ألفاً. وإذا ضربناها بالحدّ الأقصى، أي 35 ساعة في الشهر، فإنّ مجمل المكافأة يصل إلى 700 ألف ليرة. فعلى أي معيار احتسبت المكافآت، وبناء على أيّ قواعد حسابية وقوانين مرعية الإجراء؟ولماذا بلغ الحدّ الأقصى 50 مليون ليرة؟ سؤالان برسم وزارة المال انطلاقاً من حق الوصول إلى المعلومات وحرصاً على الشفافية.

ما هو مصدر الأموال لدفع المكافآت؟ وهل ثمة اعتمادات مرصودة في الموازنة، وهذا أمر مستبعد أو سلفات؟ في الحالة الأخيرة، فإنّ المادة 203 من قانون المحاسبة العمومية تمنع إعطاء السلف لتمويل بدلات الإنتاج أو الرواتب أو المساعدات. وتطلب المادة 204 تثبّت وزير المال من إمكان الجهة المستلفة إعادة السلفة نقداً في المهلة المحدّدة لتسديدها. وتوجب المادّة 205 على الحكومة أن تُطلع المجلس النيابي على السلفات المقرّرة في غضون شهر. فهل تحقّق كل ذلك؟أكثر من ذلك، تفيد أوساط مطّلعة بأنّ جزءاً من الأموال المخصصة للمكافآت يذهب إلى بعض الموظفين المحظيين، في حين أن الباقي يلاقي طريقاً مجهولاً. هذا ما حدث في السابق، ويتوقّع أن يستمر حدوثه.

إصلاح الرتب والرواتب في القطاع العام مؤجّل إلى أجل غير مسمّى...

تضحيات العسكر أكبر

التمييز والاستنسابية في إعطاء المنح والمكافآت المالية دفعا "رابطة قدماء القوى المسلّحة اللبنانية" إلى استنكار القرار 742/1، معتبرةً في بيان أنّ "هذا القرار تمّ تهريبه في ظلّ هذه العاصفة الهوجاء التي تعصف ببلدنا، وهو أتى ليقضي على مبدأي العدل والمساواة بين المواطنين ولا سيما الموظّفين منهم. علاوة على اعتباره خرقاً فاضحاً للدستور الذي ينصّ على تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات". وقالت الرابطة "إنّ وزارة المال التي نصّبت نفسها والياً على بيت المال، سمحت لنفسها بأن تمنح من تشاء الهبات والمكافآت وتحجب الحقوق الطبيعية والواجبة عمّن تشاء. ويهمّ الرابطة أن تلفت إلى أنّ ما سيتقاضاه كلّ موظف ممن ستشملهم مكرمة الوزارة يعادل على الأقل قيمة تعويض نهاية الخدمة لثلاثة عسكريين مجتمعين، أو يوازي نصف تعويض نهاية الخدمة لعميد أفنى 37 سنة من عمره في الخدمة". مضيفةً "إنّ وزارة المال هي من تمنع تنفيذ الفقرة الأخيرة من المادة الثالثة للمرسوم 13020 والقاضية بمنح العمداء الذين يستفيدون من سائق تعويضاً مقطوعاً بقيمة 5 ملايين ليرة، كما أنّها سمحت لنفسها باقتطاع قيمة تعويض بدل السائق عنهم، مع العلم بأنّ ما يتقاضاه الضباط يعتبر مساعدة اجتماعية وليس راتباً". وتوجّهت الرابطة إلى وزير المال بالسؤال عن "وضع ضباط ورتباء وأفراد الأجهزة العسكرية والأمنية ولا سيما عناصر وحدات الجيش اللبناني التي ترابط على الحدود الجنوبية، ويشاركون أهلهم في الدفاع عن لبنان ومواجهة الاعتداءات الغاشمة للعدو الإسرائيلي، ألا يحقّ لهم بدل مثابرة وبدل إنتاجية، أم أنكم "استكترتم" عليهم المنحة التي يسعى العماد قائد الجيش إلى تأمينها لهم لكون حكومتهم ووزارتهم تحجبان عنهم أدنى مقوّمات حقوقهم؟"

لا إصلاح للرواتب في الأمد المنظور

في الوقت الذي يتنعّم فيه بعض الموظفين في وزارة المال بمبلغ 555 دولاراً، يُضاف إلى مجموع ما يتقاضونه، يبدو أنّ إصلاح الرتب والرواتب في القطاع العام مؤجّل إلى أجل غير مسمّى. فالوعد بإقرار الحكومة تصوّراً إصلاحياً خلال ثلاثة أشهر من تاريخ إقرار الزيادات الأخيرة في 28 شباط الماضي، "بخّرته" حرارة ما سيترتّب على الدولة تسديده إلى الجهات الضامنة. ذلك أنّ إدخال الزيادات في صلب الراتب أو حتى إعداد تصوّر بديل لتعديل سلسلة الرتب والرواتب، سيحمّل الدولة أعباء مالية كبيرة جداً، وغير مقدّرة على وجه الدقة، لتسديد تعويضات نهاية الخدمة. وهو على ما يبدو لا طاقة لها على تحمّله. إلّا أنّ هذا يجب أن لا يعني استمرار الاستنسابية بين موظفي القطاع العام، وعدم تحديد قاعدة واضحة وشفافة للزيادات على الرواتب. ويجري الحديث في الأروقة عن استبدال راتبين إضافيين على التسعة المعطاة بإصلاح سلسلة الرتب والرواتب، ليصبح مجموع المساعدة الاجتماعية 11 راتباً. مع العلم أنّ ذيْنك الراتبين لا يشكّلان أكثر من مليوني ليرة لموظفي الفئة الخامسة، أي 22 دولارا،. وذلك لكون أساس الراتب لهذه الفئة مليوناً.

عدا التمييز، يفيد الموظفون بأنّ قيمة الرواتب تختلف بين شهر وآخر، ولا يستطيعون تحديد ما ينالونه من مساعدات وحوافز بناء على بدل الانتاجية وساعات العمل الفعلية. فالأمور، على حد توصيف أحدهم، تشبه "طبخة البحص" التي لن تستوي، وتناولها يكسّر الأسنان.