شكّل التصعيد العسكري بعد حادثة مجدل شمس نقطة تحوّل للاقتصاد اللبناني. ما بعدها لن يكون كما قبلها، أقلّه في موسم صيف 2024، وإلى حين رسو الحرب على برّ هدنة ما. القطاعات الإنتاجية والخدماتية التي كانت تستعدّ لصيف ملتهب، نسبياً، "اشتعلت" بإصدار بيانات، لم يُعرف على وجه التحديد هل تدور في فلك الطمأنة الحذرة أو التحذير المطمئن. ومع هذا، يمكن استنتاج أمرين أساسيين: الموسم بتر من منتصفه، والأمور تحت السيطرة إنْ اتّسعت الحرب إلى حدّ يراوح بين شهرين وثلاثة أشهر بالحدّ الأقصى. 

حركة القدوم تتراجع 33٪ 

السياحة بمفهومها الواسع، مع ما تجمعه من قطاعات مثل: مكاتب السياحة والسفر، والفنادق، وتأجير السيارات، وإقامة الحفلات والمهرجانات، والمطاعم، والجولات على الأماكن التراثية والفنّية والثقافية... كانت المتضرّر الأكبر. فـ"الحجوزات القادمة عبر مكاتب السياحة والسفر تُلغى تدريجياً، وتنشط حركة المغادرة قبل أوانها"، يقول محمود الخطيب، وهو صاحب أحد مكاتب السياحة والسفر. "ومع إلغاء العديد من شركات الطيران رحلاتها من بيروت وإليها، يضطر المغادرون إلى التخلّي عن تذاكرهم القديمة والحصول على أخرى جديدة على الوجهات المتوافرة. وهو الأمر الذي يكبّدهم المزيد من التكاليف. خصوصاً في ظلّ ارتفاع ملحوظ في أسعار التذاكر". ويقدّر الخطيب أن يكون لبنان قد خسر "أكثر من نصف موسم صيف 2024". وهذا ما يمكن الاستدلال عليه بسهولة بالعين المجرّدة من خلال إفراغ المؤسسات السياحية من روّادها. 

بالأرقام تفيد مصادر نقابة مكاتب السياحة والسفر بأنّ عدد القادمين إلى لبنان تراجع في 30 و31 تموز بنسبة 33 في المئة، من 13 ألف وافد يومياً إلى 9 آلاف. فيما أدّى الطلب الهائل على المغادرة إلى استنفار مكاتب الحجوزات، خصوصاً مع عدم إيلاء المغادرين الاهتمام بالوجهات، إنّما مجرّد مغادرة الأراضي اللبنانية بأسرع وقت ممكن. 

الإشغال الفندقي يعود إلى معدّلاته الدنيا 

"الإلغاءات تنهمر مثل الشتاء على الفنادق في لبنان"، يقول الأمين العام لاتحاد النّقابات السّياحيّة في لبنان ​جان بيروتي​، "والسبب لا يقتصر على الخشية من القدوم إلى لبنان بسبب تطوّر الأوضاع الحربية، إنّما لعدم وجود طائرات، في الأساس، بالاتجاهين القدوم والمغادرة. وعدم توافر وسيلة النقل الجوي بالنسبة إلى المغتربين والسياح، أو حتّى احتمال تعطّل جدول رحلاتها، يشكّل المؤشر الأول والأساسي إلى التخوّف من القدوم. ولا سيما بالنسبة إلى أولئك الذي ينظّمون رحلاتهم تنظيماً يجاري ظروف عملهم وجداول مواعيدهم في الخارج". 

نسبة الحجوزات الفندقية تراجعت إلى ما بين 20 و40 في المئة حدّاً أقصى، وهي تقتصر على الذين ما زالوا في لبنان، وليس على القادمين الجدد. وتجهد الفنادق لإعادة الأموال المحجوزة مسبقاً إلى الشركات والأفراد، مع ما يترتب على ذلك من كلفة تحويل الأموال عبر المصارف والشركات، وخسارة المواد الأولية والأموال التي دفعت على التجهيزات بناء على الحجوزات المسبقة. 

يقدّر جان بيروتي خسارة القطاع السياحي بحوالى 3 مليارات دولار تشكّل نصف الإيرادات المحقّقة في العام الماضي. متوقّعاً تراجعاً موازياً في بقية القطاعات التي يعتبر القطاع السياحي محرّكها الأساسي. 

الموسم "ذهب مع الريح" 

القطاع الفندقي الذي بدأ في شهر أيار يتنفّس الصعداء، شهد حركة حجوزات متصاعدة وصلت إلى ذروتها في شهر تموز. خصوصاً بعد تبدّد الزوبعة التي أثارتها "التلغراف" عن إمكان استهداف المطار. و"اليوم عادت الفنادق لتشهد الانهيار الحرّ في الحجوزات ونسبة الإشغال من جديد"، برأي المستشار في الخدمات السياحية والفندقية نجيب نعمه. فالمشهد تغيّر بشكل جذري. والآمال بعودة السياح أو المغتربين في حال مغادرتهم أصبحت معدومة بسبب اقتراب موعد بدء المدارس في العالم العربي وأوروبا في أيلول المقبل. ومما يسرّع من المغادرة هو التخوف من إقفال المطار، وتعرقل المغادرة عبر سوريا كما حصل في حرب 2006. وعليه، فإن الموسم "ذهب مع الريح"، يقول نعمه، والمتبقّون من السياح هم رجال أعمال أو وفود أجنبية لا تغطّي فترات بقائهم على مدى ثلاثة أيام التكاليف التشغيلية المرتفعة التي تصل إلى قرابة 30 في المئة. 

المطاعم تدفع الثمن أيضاً 

بالتوازي، انحدر نشاط القطاع المطعمي بشكل دراماتيكي. تفيد أوساطه بتراجع الحركة حوالى 40 إلى 50 في المئة في الأسبوع الماضي. وتلحظ الأوساط فقدان الحجوزات المسبقة واقتصار حركة الارتياد على الحضور المفاجئ أو الآني. وهو إشغال عرضة للتقلّبات ويتأثّر على نحو كبير بتصاعد وتيرة الأحداث العسكرية والأمنية. إذ شُلّت الحركة كلّياً مثلاً عقب العدوان على الضاحية الجنوبية وتنفيذ عملية الاغتيال في طهران". 

تأجير السيارات بـ "الأرض" 

يُذكر أنّ إيجار السيارات "تراجع من 70 إلى 30 في المئة، وبنسبة لا تقلّ عن 60 في المئة"، بحسب نائب رئيس نقابة مكاتب تأجير السيارات جيرار زوين. وانتظار شهر آب لتعويض تدنّي الطلب في شهري حزيران وتموز أملٌ نسفه تطور الأحداث، فعادت الأمور إلى نقطة الصفر من جديد، بحسب زوين. إذ لا يتجاوز الطلب على إيجار السيارات الـ 30 في المئة. 

الدولة حاضرة بالأخذ وغائبة عن الدعم 

وسط هذا الكمّ من الخسائر التي مني بها القطاع السياحي، يغيب عن السمع المجلس الأعلى للسياحة، والمجلس الوطني للترويج السياحي، ووزارة السياحة، ولجنة الزراعة والسياحة النيابية. مع العلم أنّ هذه الجهات مجتمعة أو منفردة مطالبة بالوقوف إلى جانب القطاع السياحي، ويمكن تدخّلها الفعّال أن يحدث فرقاً في قدرة هذا القطاع على الصمود والتعافي سريعاً بعد انتهاء هذه المحنة. 

القطاعات السياحية، وإن كانت لا تطلب أن تكون الدولة راعية بكلّ ما للكلمة من معنى، فهي تناشد أن لا تتحول إلى عدو للاقتصاد والسياحة. فعجزها الواضح عن الدعم المالي، أسوة بما يحدث في مثل هذه الأوقات في الدول التي تحترم شعوبها، لا يمنعها من أخذ قرارات جدّية لتخفيف التكاليف الباهظة عن المؤسسات من اشتراكات الضمان والضرائب والرسوم مع الغرامات الكبيرة التي تترتب عليها في حال التأخّر عن التسديد. علماً بأنّ عدم تسديد المتوجبات غالباً ما يكون بسبب تعطل الإدارات وليس تقصيراً من المكلّفين. 

وعلى هذا النحو، فانّ تخفيف الأحمال عن المؤسسات يضمن قدرتها على المحافظة على موظفيها ومنع "قطفهم" من الدول المجاورة التي "تستميت" للحصول على الخبرات اللبنانية في مجال الضيافة تحديداً. وتؤمّن بالتالي حدّاً أدنى من الدعم حتى يحين موعد الخروج من هذا النفق المظلم، المعدوم بصيص النور في نهايته... أقلّه حتى كتابة هذه السطور.