ينهمك الرأي العام اللبناني بالبحث عن القيمة الحقيقية لعملته الوطنية مقابل الدولار. فاستقرار سعر الصرف منذ أكثر من عام عند 89500 ليرة لكلّ دولار، أعطى انطباعاً قوياً بأنّ العملة مٌقيّمة بأكثر من قيمتها الحقيقية. يعزّز هذا الانطباع رغبة جارفة عند الفئة التي ما زالت تتقاضى رواتبها بالليرة، في رفع سعر صرفها 20 ألف ليرة أو حتى 30 ألفاً، لتصبح كلّ 60 الفاً قادرة على شراء دولار واحد. وبهذه الطريقة تتحسّن القدرة الشرائية تلقائياً وتعوّض المداخيل جزءاً موازياً ممّا فقدته. وبالتوازي، تتحسّن إيرادات الدولة التي يجبى القسم الأكبر منها بالعملة المحلّية.

لتبسيط هذه المصطلحات وتبيان قوة العملات ودرجة تقييمها، أطلقت مجلة The Economist في العام 1986 "مؤشر بيغ ماك" (Big Mac Index). يقيس هذا المؤشر مدى "تعادل القوة الشرائية" بين الدول باستخدام سعر سندويتش "بيغ ماك" من "ماكدونالدز" معياراً. فمثلاً، إذا كان سعر "بيغ ماك" بالدولار في لبنان أدنى من سعر مبيعه في الولايات المتحدة الأميركية تكون الليرة مقيّمة أكثر من قيمتها الحقيقية، ويجب خفض سعر صرفها مقابل الدولار بعض الشيء. وإذا كان سعر مبيعه في لبنان أعلى تكون العملة مقيّمة أقلّ من قيمتها الحقيقية، ويجب رفعها. وفي حال التعادل يكون سعر الصرف منطقياً وموازياً، بحسّب المؤشر.

سعر بيغ ماك في لبنان بين 2021 و2024

القائمون على استطلاع The Economist يؤكّدون أنّ المؤشّر هو مجرّد أداة للمساعدة في فهم أعمق لسعر الصرف، ولا ينبغي أخذه مقياساً دقيقاً. ومع هذا لا ضير في تطبيقه على الواقع اللبناني لأخذ فكرة عن واقع سعر الصرف ومدى صوابيّة تقييمه.

بالفعل، قدّم فريق الأبحاث الاقتصادية في "بلوم بنك" مقارنة لسعر صرف الليرة اللبنانية في مرحلتين مختلفتين انطلاقاً من هذا المؤشّر في دراسة عنوانها "مؤشّر بيغ ماك وأسعار الصرف وتكلفة الإنتاج في لبنان". ومما تبيّن أنّه في 18 تموز 2021، كان سعر مبيع بيغ ماك في لبنان 37000 ليرة على سعر صرف السوق 22000 ليرة. أي أنّ سعر "بيغ ماك" في لبنان بالدولار كان يبلغ حوالى 1.6 دولار فقط. في حين كان "بيغ ماك" يباع في الولايات المتحدة الأميركية في تلك الفترة بـ 5.6 دولار. وتبعاً لهذا المقياس، يمكن الاستنتاج أنّ الليرة اللبنانية مقيّمة أكثر من قيمتها الحقيقية بحوالى 70 في المئة.

بعد عامين بالتمام والكمال، أي في 18 تموز 2024، ارتفع سعر "بيغ ماك" في لبنان إلى 480 ألف ليرة، تعادل 5.3 دولار على سعر صرف السوق البالغ 89500 ليرة. في المقابل، كان سعر مبيع "بيغ ماك" في الولايات المتحدة 6.5 دولار. أي أنّ الليرة اللبنانية ما زالت مقيّمة أكثر من قيمتها مقابل الدولار، بحوالى 17.5 في المئة.

انطلاقاً من هذا المعيار، يظهر أنّ العملة الوطنية ما زالت مقيّمة أعلى من قيمتها الحقيقية ويجب خفضها أكثر. وعليه، يفترض إضافة 17.5 في المئة على سعر الصرف لكي يصبح متعادلاً أو حقيقياً. وبالتالي، فإنّ سعر الصرف يجب أن يكون 105 آلاف ليرة وليس 89500 ليرة. وهذا يتناقض "نظرياً" مع كلّ الآمال برفع سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

التحرير هو المقياس الأدقّ للتقييم

على الرغم من أهمية مؤشّر "بيغ ماك" والنظرة العامّة التي من الممكن أن يزوّدنا بها عن سعر الصرف، يبقى تمريناً اقتصادياً فكرياً أكثر منه حقيقة يمكن اعتمادها بحسب الباحثة في الاقتصاد النقدي د. ليال منصور. فإذا كان تقييم سعر الصرف في 18 تموز الجاري أدقّ بما لا يقاس من مرحلة 2021، إبان دعم مختلف السلع والخدمات، فإنّه "لا يأخذ في الاعتبار كلفة اليد العاملة، والمكوّنات التي تدخل في صلب الانتاج، والضرائب على القيمة المضافة والجمارك والمبيعات، وكلفة حق الامتياز (Franchising)"، تقول منصور. "ولا يعتبر، بالتالي، مؤشّراً بالغ الدقّة لتحديد قوّة سعر الصرف، بقدر ما يعطي فكرة عامة عن تصنيف البلد من حيث غلاء الأسعار". إذ يمكن الاستنتاج أنّ لبنان أرخص من الولايات المتحدة.

ما هو سعر الصرف الحقيقي؟

للإجابة عن السؤال المحوري: ما هو سعر الصرف العادل أو الحقيقي في لبنان؟ لا يمكن الاعتماد إذاً على مؤشر "بيغ ماك". كما لا يمكن تحديده انطلاقاً من مقارنة ما يوجد في البلد من دولارات بحجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية. فهناك من يقول إنّ سعر الصرف الحقيقي هو 6000 ليرة، استناداً إلى قسمة الكتلة النقدية بالليرة M0 التي تعادل 60 ألف مليار ليرة، على احتياطي المركزي المقدّر بحوالى 10 مليارات دولار. فتكون النتيجة أنّ هناك 6000 ليرة مقابل كلّ دولار. و"المعرفة الدقيقة لحقيقة سعر الصرف، لا يمكن أن تظهر إلّا مع تحريره كلّياً"، برأي منصور. "ذلك أنّه كلّما نحا المجتمع باتجاه الدولرة، فقدت العملة الوطنية قيمتها أكثر فأكثر". وعليه، فإنّ قاعدة العرض والطلب كفيلة بتحديد سعر الصرف بعد تحريرها بالمطلق وعدم تدخّل أيّ جهة بالسوق، وخصوصاً المصرف المركزي بائعاً أو شارياً للدولار والليرة.

مصير سعر الصرف مجهول

ما يجري اليوم على أرض الواقع هو أنّ "المصرف المركزي عمل مجدداً على تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ونجح مؤقّتاً وبشكل اصطناعي في ذلك. لأنّه، بكلّ بساطة، توقّف عن إقراض الحكومة بالليرة والدولار"، بحسب منصور. ساعد على ذلك "ارتفاع نسبة الدولرة على صعيد التداول، والاستعمال إلى 90 في المئة، مقابل 10 في المئة فقط حصّة الليرة اللبنانية من التداول. كأنّنا بذلك أصبحنا أمام بلدين مختلفين، الأوّل يملك صورياً عملة وطنية هي الليرة فيما الثاني يستعمل الدولار في شتّى الميادين والمجالات. ومجرّد تلبية مختلف الحاجات الشرائية والاستهلاكية والخدماتية بالدولار، تراجع الطلب تلقائياً على الليرة. وبحسب المنطق الاقتصادي لا يرتفع سعر أي سلعة من السلع، ومنها العملة، إلّا عند زيادة الطلب عليها مقابل تراجع العرض. وهذا لا يحصل في حالة الليرة اللبنانية.

الحلّ الممكن تطبيقه لحماية الاقتصاد

المشكلة أنّ "السياسة التي تتّبعها الإدارة الجديدة في مصرف لبنان غير مستدامة"، تؤكد منصور. "فتثبيت العملة لا ينجح مرّتين (المرّة الأولى حصل التثبيت على سعر صرف 1500 ليرة من العام 1998 إلى العام 2019). ومن دواعي الأسف أن التثبيت في المرة الثانية يكون مؤقّتاً ولا يتجاوز العامين بحسب أحسن التجارب العلمية والعالمية. فما الحلّ؟

تصرّ منصور على أنّ "الحلّ النهائي يبقى اعتماد الدولرة الشاملة أو "مجلس تثبيت النقد"، المُصطلح على تسميته (currency board). والذي يعني ببساطة عدم طبع ليرات إلّا بقدر ما يدخل إلى البلد من ليرات وكفّ يد المصرف المركزي عن التدخّل في الاقتصاد، وذلك بعد فترة من تحرير سعر الصرف كلّياً. وهذا ما يجلب الاستقرار إلى الاقتصاد. فـ "مجلس تثبيت النقد" لا يملك تاريخ انتهاء صلاحية لتطبيقه على قاعدة (it’s not now or never)، "لأنّ عودة الثقة بالليرة مستحيلة. وهذا ليس رأياً شخصياً"، تؤكّد منصور، بل دليل مثبت علمياً. إذ لا يمكن إعادة الثقة بعملة أيّ بلد مدولر بأكملها عندما تنهار.