أظهرت تعليقات المشاركين والمشاركات في جلسة نقاش متخصّصة في الشوف حول الضرائب في لبنان، أنّ التخلّف عن سدادها ليس مادياً فقط، بل معنوياً أيضاً. فعوائد الضرائب لا تعود على المجتمع خدمات عامّة وتقديمات صحّية واجتماعية كما في الدول المتحضّرة، إنّما تتراكم ثروات في جيوب المتنفّذين. وغالباً ما تتغذّى هذه النقمة العارمة من اتهام الآخر بالتهرّب الضريبي، انطلاقاً من المقولة الشعبية "ليش نحن بدنا ندفع، وهني لأ؟". وبغضّ النّظر عن: "من نحن ومن هم"، فقد أذكت المنظومة هذه النزعة، لتستمرّ في تكريس واحد من أكثر الأنظمة الضريبية فقداناً للعدالة في العالم وأكثرها تشوّهاً على الإطلاق.
خلافاً للاعتقاد الشائع عند السواد الأعظم من المواطنين بأنّ التهرّب الضريبي "شطارة"، يرى المحامي كريم ضاهر، وهو أستاذ محاضر في قانون الضرائب والمالية العامّة، أنّ التهرّب يشكّل خدمة مجّانية للمنظومة. فهو "يدفعها إلى الاعتماد على الضرائب غير المباشرة، التي لا تحفّز المُكلّفين على المحاسبة". وقد اعتبر بعد جلسة مع "الإطار التشاوري في الشوف" جمعته إلى جانب أستاذ التاريخ جيل سماحة، مع عدد من المهتمين بالشأن العام، أن ّ"الضرائب غير المباشرة تقتطع من مداخيل المواطنين، كلّ المواطنين، أضعافاً مضاعفة عمّا لو كانت مباشرة". والدليل على ذلك أنّ نسبة الضرائب المباشرة في موازنة 2024، لا تتخطّى 26 في المئة، مقابل 74 في المئة ضرائب غير مباشرة، ندفعها صاغرين على الاستهلاك والخدمات والنقل والأفراح والأحزان وصولاً حتى الموت... وخطورة هذا التشوّه الضريبي لا تقتصر، من وجهة نظر ضاهر، على ثقله الماديّ، إنّما على "انتفاء الحاجة عند المواطنين إلى المحاسبة، كما لو كانت الضرائب مباشرة وتصاعدية. فعندما يقتطع المكلّف من دخله على نحو مباشر مبلغاً مالياً لقاء خدمة ما، يتوقّع الحصول عليها كاملة. وأيّ نقص أو تراخٍ في تقديم هذه الخدمة يدفعه إلى المساءلة والمحاسبة، تماماً كما يجري مع لجان إدارة الأبنية أو لجان الأهل في بعض المدارس...
تحوّل الضرائب في لبنان وسيلةً لتسديد الدين العام سابقاً، والتعويض عن فشل الإصلاحات العامّة راهناً
الضرائب فعل إرادي
انطلاقاً من هذا الواقع، يجب أن يكون تسديد الضرائب فعلاً إرادياً طوعياً، بعكس اسمها الذي يدلّ على "الضرب". وأن تأتي في إطار فكرة العقد الاجتماعي، وبخلفية راسخة مفادها أنّ "هذا البلد هو وطن نهائي للأجيال الحالية واللاحقة وليس محطّة بين سفرين"، يقول ضاهر. "الأمر الذي يتطلّب التحلّي بالمسؤولية الفردية على مختلف المستويات، بدءاً بتصريح أصحاب المهن الحرة عما يتقاضونه صراحة من الزبائن، خصوصا الأفراد. مروراً بمقدّمي الخدمات الكهربائية وغير الكهربائية من أصحاب المولّدات وشركات الانترنت. وصولاً إلى كبريات الشركات. وهو ما يتيح تالياً المطالبة بالإصلاح الضريبي الذي يتلاءم مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية وحتّى الدولية، والذي لم يلحقه منذ وضعه في العام 1959 إلّا ثلاثة إصلاحات جدّية:
الأول، في الثمانينيات، عندما أضيفت الضريبة إلى الشركات.
الثانية، في العام 2001 عندما أضيفت الضريبة إلى القيمة المضافة.
الثالثة، في العام 2008 مع توحيد كلّ الاجراءات الضريبية، وهو الإجراء الأهمّ لحماية المكلّفين.
ومع هذا، يبقى النظام الضريبي بحاجة إلى العديد من الإصلاحات الجوهرية من وجهة نظر ضاهر، ولا سيما في ما يتعلّق بـ:
- توحيد الوعاء الضريبي بدلاً من تعدد الأوعية، بعدما حُوّلت وزارة المال إلى فيدرالية ضرائب. إذ لكلّ ضريبة دائرة في الوزارة، وعلى رأس كلّ دائرة مدير مستقلّ.
- تصحيح ضريبة الأملاك المبينة وتحديثها.
- تحديث قانون ضريبة الدخل، بشرط يتضمن كلّ المداخيل وبشكل تصاعدي.
النظام الضريبي
يرتبط تحديث النظام الضريبي وتطويره بالظروف المحلّية والإقليمية. فقانون الضرائب اللبناني الذي وضع في العام 1956 تزامن مع الانقلابات في العديد من الأقطار العربية وتهريب الرساميل إلى لبنان. وأتى بعد إقرار لبنان قانون السرية المصرفية نتيجة ضغوط مارسها العميد الراحل ريمون إدة، للمحافظة على هذه الرساميل وإبقائها في لبنان والاستفادة منها في دعم الاقتصاد بدلاً من تحويلها إلى سويسرا. وعليه، حمى النظام الضريبي القطاعات الانتاجية من زراعة وصناعة. فألغى ضريبة الأراضي التي تعود إلى العام 1951، وأعفى المزارعين وعمال الزراعة من الضرائب، ولم يفرض أيّ ضريبة على أصول الإنتاج الزراعي ووسائله من مبان وأدوات وسيارات وجرارات. كما قدّم إلى القطاع الصناعي إعفاءات لمدّة 10 سنوات من الضرائب في حال الاستثمار في مناطق معينة من أجل تصويب التنمية المناطقية وتشجعيها.
اليوم، مع تبدّل الظروف المحلّية والإقليمية، وتحوّل الضرائب في لبنان وسيلةً لتسديد الدين العام سابقاً، والتعويض عن فشل الإصلاحات العامّة راهناً، لا يُعدّ الإصلاح الضريبي مدخلاً لتحصيل الأموال من أجل تقديم الخدمات فحسب، بل هو عنصراً مساعداً في تصويب العقد الاجتماعي. وبالتالي، تيقّن المواطنون أنّ ما يدفعونه من ضرائب هو عادل ومتوازن ويعود عليهم بالمنفعة. وإلّا فإنّ العصيان والتهرّب الضريبي سيتسمران في نخر الاقتصاد مثل السوس حتّى يهرّ كلياً.
تاريخ الضرائب وأهدافها
وكانت قد سبقت توصيفَ الواقع الحالي للضرائب، مداخلةٌ للأستاذ جيل سماحة استعرض فيها تاريخ الضرائب عبر العصور، واختلاف أشكالها بين ضرائب تصاعدية وتنازلية. وتحدّث عن مفهوم العدالة الضريبية وأهدافها والمراحل التي مرّت بها، وما آلت إليه. وفنّد الهدف من اقتطاع الضرائب، وكيفية مساهمتها في المحافظة على الحماية الاجتماعية في البلدان، متطرّقاً إلى أنّه كان بالإمكان إرساء نظام حماية اجتماعية من دون زيادة الضرائب. ولفت إلى دخول بعض البلدان، ومنها لبنان، الحلقة المفرغة لزيادة الضرائب من أجل سداد الدين العام.