دخل الاقتصاد اللبناني عقب حادثة "مجدل شمس" مرحلة جديدة من حبس الأنفاس. فالعمليات العسكرية المركّزة التي ظلّت حتى الأمس القريب محصورة بالشريط الحدودي الجنوبي، قد تتوسّع إلى مدى يعجز الجميع عن تقدير أبعاده الجغرافية والتدميرية.
الاقتصاد الذي تنفّس هذا الصيف من رئة المغتربين وبعض السيّاح، ترجم هذه التطورات سريعاً إلغاءً للحجوزات، وبدء الوافدين الاستعداد للمغادرة سريعاً. ساعد على ذلك تأخير الناقل الوطني، طيران الشرق الاوسط الرحلات الآتية إلى بيروت في انتظار جلاء موقف كيان العدو وتحديد حجم الردّ العسكري ومكانه. وعمدت شركات طيران عالمية مثل لوفتهانزا الألمانية، و"فرانس آرلاين" و"ترانسافيا" إلى تعليق رحلاتها كلّياً إلى بيروت إلى ما بعد 30 تموز، فيما حدد بعضها تاريخ 5 آب. كما أظهرت بيانات فلايت رادار 24 أنّ الخطوط الجوية التركية ألغت رحلتين ليل الأحد. كذلك ألغت شركة طيران "صن إكسبرس" التركية للرحلات المنخفضة التكاليف وشركة "إيه جيت" التابعة للخطوط الجوية التركية و"شركة طيران إيجه" اليونانية، والخطوط الجوية الإثيوبية رحلات كان من المقرر وصولها إلى بيروت أمس. وترتبط هذه التدابير بعنصرين أساسيين، الأول يتعلّق بالسلامة العامة، خصوصاً أنّ العدو سبق أن استهدف المطار الدولي في بيروت، وكان آخر استهداف مباشر في العام 2006 خلال حرب تموز. أمّا الثاني فيتعلّق بتوزيع مخاطر التأمين على الطائرات بين لبنان ووجهات أخرى.
السياحة وموسم صيف 2024
احتمال انتهاء موسم صيف 2024 بعد نحو شهرين من انطلاقته الصاروخية يعني بلغة الأرقام خسارة نحو ثلث المداخيل. فبحسب نقيب مكاتب السياحة والسفر جان عبود، كان من المنتظر أن يستمرّ تدفّق القادمين خلال شهر آب الطالع بوتيرة 14 ألف وافد يومياً، كما في تموز الجاري. على أن يصل العدد التراكمي للقادمين مع نهاية الشهر نفسه إلى نحو 1.5 مليون شخص. وكان من المنتظر، بحسب بيان سابق لعبود، أن "يكون موسم الصيف في هذا العام أفضل من العام السابق، إذا نجحت التهدئة في المنطقة". إلّا أن هذا لم يحصل، وقد لا يحصل في وقت قريب. خصوصاً مع العجز عن الحسم العسكري. وهذا ما يعني استمرار حرب الاستنزاف مع إمكان تصاعدها خارج التوقّعات في أيّ لحظة من اللحظات.
تراجع الناتج
من جانب آخر، يقول وزير الزراعة اللبنانية حسين الحاج حسن إنّ "الانتاج الجنوبي يشكّل 20 في المئة من النّاتج الإجمالي". وإذا افترضنا أنّ النّاتج الإجمالي يقارب 21.5 مليار دولار، بحسب الأرقام الرسمية، فإنّ 4.3 مليار دولار تتأتّى من الجنوب. وكلّما تضرّرت المناطق تضرراً أكبر، وتراجع الانتاج الزراعي والصناعي وتقلّصت الخدمات، تراجع الناتج الوطني تراجعاً موازياً. مع العلم أنّ الحرائق شملت إلى اليوم 2400 دونم من الأراضي بشكل كامل و6500 دونم بشكل جزئي، بحسب الحاج حسن. وتعرّضت قرابة 3200 وحدة سكنية للأضرار.
عجز الحكومة عن القيام بدورها
الشقّ الأخطر من تصاعد وتيرة الحرب يتّصل بقدرة الدولة اللبنانية على القيام بدورها في الإيواء، والإغاثة، ومساعدة النازحين، والتعويض عن الأضرار الشخصية والعامّة في ما بعد. وهذا ما يبدو مستبعداً إلى الآن. فالنازحون من قرى الشريط الحدودي، وعددهم نحو المئة ألف، لا يعتمدون على الدولة بشيء. الإيواء تأمّن من خلال العلاقات الشخصية والإنسانية والمبادرات الفردية، ونسبة 1 في المئة فقط تقطن في مراكز مخصّصة لذلك، فيما يتوزع 99 في المئة على منازل الأقرباء والأصدقاء في القرى المجاورة. وباستثناء بعض المساعدات المحدودة من وزارة الشؤون الاجتماعية ومجلس الجنوب للإعمار، فإنّ الذين يتكفّلون بالحصص الغذائية ومواد التنظيف وبعض المساعدات النقدية هم متموّلون محليون بالإضافة إلى منظمات وجهات دولية، قسم منها تابع إلى الأمم المتحدة والصليب الأحمر.
وفي ما خصّ التعويضات، فإنّ كلّ ما رصدته الحكومة اللبنانية هو اعتماد بقيمة 93 مليار ليرة، يناهز المليون دولار، من أجل دفع المساعدات لذوي الضحايا. وعليه، فإنّ قدرة الدولة على الاستمرار في التخلّي عن مسؤولياتها قد لا يستمرّ طويلاً في حال تصاعد وتيرة الحرب وتزايد الأضرار. وستجد نفسها بعد انتهاء الحرب ملزمة بحلّ من ثلاثة:
إمّا الاعتماد على المساعدات الدولية. وهو أمر لا يزال مستبعداً لإحجام المؤسسات الدولية عن تقديم الإعانات بالشكل المطلوب، وعدم إبداء الرغبة في المساعدة.
وإمّا الاستدانة من مصرف لبنان بالدولار، وهذا بدوره يتطلّب إقرار قانون بسبب إصرار حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري على عدم الإقراض أو التسليف من دون وجود قاعدة قانونية.
إمّا العودة إلى الضغط على مصرف لبنان لطبع الليرات بغية تمويل الانفاق بالليرة، وفي هذه المرحلة، قد يعود سعر الصرف ليتفلّت من عقاله تفلّتاً يؤدّي إلى عودة التضخّم وامتصاص كلّ السياسة الاحتوائية التي اعتمدتها الحكومة في الفترة الماضية للمحافظة على سعر الصرف.
المزيد من المساعدات الإنسانية
إلى ذلك، يستمرّ الوضع الإنساني في التدهور يوماً بعد آخر. وقد أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية بالشراكة مع مؤسسة رينه معوض والبنك الدولي، نهاية الأسبوع الماضي، برنامجَ الإدماج الاقتصادي المُنتِج في لبنان (Productive Economic Inclusion Program) ، وهو برنامج نموذجي يهدف إلى تحسين سبل كسب العيش لنحو 1500 أسرة لبنانية فقيرة من الأسر المستفيدة حالياً من المشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي (برنامج أمان). يُموّل هذا البرنامج بمنحة قدرها 2.7 مليون دولار من الصندوق الياباني للتنمية الاجتماعية، ويأتي مكمّلاً للمشروعَ الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي من خلال تزويد المستفيدين منه حزمةً من الخدمات التي تستهدف تحسين مستوى دخل أُسرهم وأحوالهم المعيشية وقدرتهم على الصمود.
وتأتي هذه المبادرات في ظلّ استمرار البنك الدولي في تعليق قرض مقداره 300 مليون دولار للتوسّع في دعم الأُسر اللبنانية الفقيرة، وتعزيز نظام تقديم خدمات شبكات الأمان الاجتماعي. ومشارفة قرض القمح، ومقداره 1.5 مليون دولار، المقدم من البنك الدولي، على النفاد أيضاً.
إزاء كلّ هذه المشهدية التي تجمع الحرب، والفقر، وعجز الدولة، والقصور في المساعدات، واقتصار الإعانات على عدم الموت جوعاً على خشبة المسرح اللبناني، يبدو أنّ الوضع على فوهة بركان العودة إلى الانهيار. وبالتالي سقوط المسرح المنخور بسوس الفساد بمن فيه في وقت ليس ببعيد.