شكّل الخروج غير العقلاني للعملة الأجنبية من لبنان طوال السنوات الماضية، سبباً أساسياً من أسباب الانهيار. هذه العملية المنظّمة التي يدلّ عليها، صراحةً، العجز الهائل في ميزان المدفوعات كانت تتم تحقيقاً للعديد من الأغراض، منها: الاستيراد "الفالت من عقاله"، وتحويلات العمالة الأجنبية التي ازداد عددها باطراد مع بداية الألفية الثانية، والسياحة في الخارج، وسداد القروض وفوائدها...
ومع اندلاع الأزمة، ساد اعتقاد بأنّ هذا النزيف المتمادي سيتوقّف حكماً، ليس بطيب خاطر اللبنانيين، إنّما بالإكراه. وذلك لسبب يسير جداً، هو: فقدان الدولار، المترافق مع عجز مصرف لبنان عن التدخّل بائعاً للنقد الصعب بغية تمويل هذا البذخ غير المبرّر بالكثير من جوانبه وسداد الديون الأجنبية. إلّا أنّ هذا لم يحصل!
مع نهاية العام 2021، وهو العام الثاني على الانهيار والأخير لانتشار "كوفيد19"، عاد كلّ شيء في لبنان كما كان. الاستيراد "يناطح" 20 مليار دولار. أعداد العمّال الأجانب الشرعية، باستثناء السوريين، ارتفعت إلى 95285 في العام 2023 بحسب أرقام "الدولية للمعلومات"، بعدما تدنّت عن 86 ألفاً في العام 2022. السياحة الصادرة استفحلت بعد سنوات من الانقطاع. في حين عوّض "تهريب" الأموال الذي "سار على قدم وساق"، مع تعثّر المصارف كلّ المبالغ التي كان يتعيّن على لبنان دفعها للدائنين الأجانب. وذلك من دون أن ينقطع لبنان الرسمي كلّياً عن تحويل بعض المبالغ إلى مؤسسات دولية لا يقدر على "زعلها"، مثل البنك الدولي. وعليه، عاد الاستنزاف للعملة الأجنبية بشكل كبير في ظلّ واحدة من أدقّ المراحل التي يمكن أن يمر بها اقتصاد.
إنفاق اللبنانيين على السياحة الخارجية
على الصعيد السياحي، يقدّر رئيس نقابة مكاتب السياحة والسفر في لبنان جان عبود أن تكون أرقام السياحة الصادرة من لبنان لهذا العام مشابهة لأرقام العام 2023 من حيث الطلب المرتفع عددياً، وقيمة المبالغ المنفقة في الخارج. فالطيران العارض أو المؤجر (Charter) الذي يقوم على تأجير طائرة كاملة، بخلاف بيع تذكرة طيران لمقعد طائرة بشكل فردي، كما هو المعتاد مع شركة الطيران العادي، يسجّل عرض 2500 مقعد يومياً، تقدّمها 5 شركات طيران، تذهب مباشرة إلى الوجهات المطلوبة. وتتصدّر تركيا قائمة الوجهات السياحية التي يقصدها اللبنانيون هذا الصيف بمعدّل عام يصل إلى 230 ألف شخص بين الأول من حزيران وآخر أيلول المقبل. ويقدّر الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين أن يبلغ إنفاق السياح اللبنانيين في الخارج حوالى 300 مليون دولار سنوياً انطلاقاً من متوسط إنفاق يراوح حدّه الأقصى بين 1000 و1500 دولار، خصوصاً على الوجهات المنخفضة التكاليف من حيث تذاكر السفر والإقامة والتنقل والمأكل والمشرب، مثل تركيا بساحلها ومدنها، وشرم الشيخ والأردن.
في المقابل، يمضي قسم لا يستهان به من اللبنانيين الإجازة السياحية في اليونان وقبرص وإيطاليا وباريس وغيرها، من دون إمكان إحصاء العدد إحصاءً دقيقاً بحسب عبود، "لكون السفر يتم في الرحلات العادية وليس في الطيران العارض. وبالتالي، يختلط المسافر للسياحة مع المسافر للعمل أو للإقامة أو لغيرهما من الأسباب. مع ترجيح ألّا ينخفض هذا العدد عن 50 ألف شخص وبمعدّل إنفاق أكثر من 1500 دولار للشخص الواحد نتيجة ارتفاع تكاليف السفر والإقامة في هذه الوجهات. ومن المتوقّع أن ينفق اللبنانيون هذا الصيف مبالغ مالية كبيرة بالدولار النقدي على السياحة في الخارج.
تحويلات العمالة الأجنبية والسورية
على خطّ مواز، تقدّر التحويلات السنوية لحوالى 100 ألف عامل أجنبي شرعي، معظمهم يعملون في الخدمة المنزلية، بين 180 و200 مليون دولار، إذا افترضنا أنّ متوسط الدخل الشهري يراوح بين 150 و400 دولار. يضاف إليهم، بحسب شمس الدين، 100 ألف عامل أجنبي غير شرعي فترتفع قيمة التحويلات إلى نحو 500 مليون دولار من العمالة الأجنبية. أمّا العمالة السورية فتحوّل نحو 170 مليون دولار سنوياً عبر الطرائق الشرعية (مكاتب صيرفة وشركات تحويل أموال). فقيمة التحويلات الرسمية إلى سوريا تقدّر بمليار دولار سنوياً، 17 في المئة منها من لبنان. أمّا القيمة الكبرى فتُحمل باليد أو تُهرّب إلى داخل سوريا لتجنّب الرقابة من جهة، وللحدّ من الاقتطاعات التي كان يفرضها النظام على الحوالات، إذ ظلّت فترات طويلة تُسلّم بحسب سعر الصرف الرسمي، الذي يقلّ بنسبة كبيرة عن سعر صرف السوق. ومن المتوقّع أن تصل تحويلات العمالة الأجنبية، بشقّيها الشرعي وغير الشرعي، إلى 1.5 مليار دولار سنوياً.
كلفة السفارات والقروض
على الرّغم من تخلّف لبنان عن سداد ديونه، لا يزال يدفع بعض المستحقّات الأساسية المرتبطة بعمل السفارات في الخارج وقروض المؤسسات الدولية، وذلك لضمان تجديدها. وتقدّر المدفوعات السنوية بنحو 60 مليون دولار للسفارات وحدها، بحسب شمس الدين. هذا عدا بعض مدفوعات القروض وفوائدها التي لا تقلّ سنوياً عن 20 مليون دولار.
يضاف إلى هذه الأرقام، استيراد بقيمة تبلغ نحو 17.5 مليار دولار فيرتفع إجمالي التحويلات بالعملة الأجنبية من لبنان إلى الخارج إلى نحو 20 مليار دولار. وأهميّة إحصاء هذا الرقم، في رأي شمس الدين، لا تتعلّق بالإشارة إلى استمرار نزيف العملات الصعبة التي يحتاج إليها لبنان أكثر من أيّ وقت مضى فحسب، إنّما بإعطاء صورة واضحة عن حجم تحويلات المغتربين التي تصل إلى لبنان. فتحقيق لبنان فائضاً في ميزان المدفوعات في العام 2023 بقيمة 3 مليارات دولار يعني أنّ دخله حوالى ملياري إلى 3 مليارات دولار أكثر ممّا خرج منه من عملة صعبة. وعليه، يمكن الاستنتاج أنّ تحويلات المغتربين من الخارج هي 15 مليار دولار وليس 6.7 مليار دولار. وهو ما يبرّر قدرة الصمود عند اللبنانيين على الرغم من كلّ الأزمات.