خبت خلال الأشهر الطويلة الماضية "نيران" الملاحقات القضائية الدولية بحقّ الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، تحت "رماد" العديد من العوامل العامّة والخاصّة. فبردت حماوة التحقيقات الفرنسية داخلياً وخارجياً. وطلب القضاء الألماني من الأنتربول الدولي إسقاط مذكّرة التوقيف بحقّه، محمّلاً تكاليف القضية المرفوعة لخزينة ولاية ميونيخ. واستمرّ انهماك القضاء اللبناني بدعاوى المخاصمة التي رفعها ويرفعها سلامة بحقّ كلّ من يتجرّأ على وضع يده على الملف. الأمر الذي أوحى أنّ ملفات سلامة فارغة، والاتهامات المبنية على قواعد سياسية باطلة. فما هي حقيقة ما يجري؟

قبل أيام حطّ القاضي الفرنسي المتخصّص بالجرائم المالية سيرج تورنير في بيروت. الزيارة المفاجئة ليست بغرض الاستجمام والسياحة، إنّما "لاستكمال التحقيقات التي كانت قد بدأتها القاضية أود بوريسيه بتهمة تبييض الأموال، الموجهة إلى رياض سلامة وشقيقه رجا"، بحسب أوساط متابعة. ويعود تاريخ التحقيقات الفرنسية إلى العام 2021، على أثر الدعوى القضائية المرفوعة على الأخوين سلامة في فرنسا بتهمة الشبهات بتحويل ملايين الدولارات إلى مصارف أوروبية بطريقة غير شرعية. وقد استكمل المحققون الفرنسيون بالتعاون مع السلطات القضائية في ألمانيا واللوكسمبورغ وسويسرا التحقيقات خلال العامين 2022 و2023. وزاروا لبنان أكثر من مرّة واستجوبوا المتّهمين وحقّقوا مع مصرفيين ومسؤولين ماليين. وشبكوا تحقيقاتهم مع النتائج التي توصّل إليها بعض القضاء اللبناني. وذلك قبل أن تعيّن القاضية بوريسي جلسة الاستجواب الشهيرة للحاكم سلامة في 16 أيار 2023 في فرنسا، والتي أدّت إلى قرار الملاحقة بحق سلامة من الأنتربول بعد تخلّفه عن حضورها. إذ كان من المرجّح أن توجّه الاتهامات إليه مباشرةً.

قبل أيام حطّ القاضي الفرنسي المتخصّص بالجرائم المالية سيرج تورنير في بيروت.

الحماوة تعود إلى التحقيقات

الخمود في التحقيقات في ملفّات سلامة منذ منتصف العام 2023، دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأنّ الإجراءات تلاشت نتيجة العجز عن تثبيت الاتهامات الموجّهة إلى سلامة. في حين أن السبب الحقيقي للتأخير متّصل بأمرين أساسيين يقول المحامي المتخصّص بقوانين الضرائب الدكتور كريم ضاهر، وهما: خروج القاضية أود بوريسيه على التقاعد، ونيل القاضية الخليفة التي عُيّنت مكان بوريسي إجازة ولادة طويلة.

ومع انتهاء إجازة الأمومة استأنفت القاضية الفرنسية العمل على ملف سلامة في إشراف القاضي سيرج تورنير. والأخير يعتبر رئيس القاضية أود بوريسي من حيث التسلسل القضائي الهرمي في فرنسا، وإنْ كانت هي الموكلة بالملف مباشرة. وهو الذي عيّن القاضية التي حلّت مكان بوريسيه بعد تقاعد الأخيرة. وأغلب الظنّ أنّ "ملف الحاكم السابق رياض سلامة سيصل إلى خواتيمه في وقت قريب، أقصاه نهاية العام الحالي، ومطلع العام المقبل"، بحسب ضاهر.

إسقاط الملاحقات الألمانية ليس دليلاً يعتدّ به

خلافاً لكلّ التحليلات، فإنّ خطوة إلغاء القضاء الألماني مذكّرة التوقيف بحقّ رياض سلامة والطلب من الأنتربول وقف التعقبّات، لا تعني شيئاً من حيث استكمال التحقيقات في الملف من عدمه. ذلك أنّ قرار المدّعية العامّة في ميونخ كان يرتكز على صلاحية اتخاذ القرار لتحقيق هدفين، بحسب ضاهر: الأول منع الشخص من الهروب وتبديد الأدلّة. وهذا الموضوع لم يبقَ قائماً بعد خروج الحاكم من سدّة الحاكمية في آب 2023. أمّا في ما يتعلّق بعدم الهروب فإنّ القضاء اللبناني يحتجز جواز سفر سلامة ويمنعه من السفر منذ كانون الثاني 2022. وبقدر ما يبدو هذا الإجراء احترازيّاً بحقّ سلامة، بقدر ما هو لحمايته من الملاحقات الدولية. وللدلالة فإنّ القاضية غادة عون أصدرت في 12 نيسان 2023، قبل موعد جلسة التحقيق في فرنسا، قراراً قضى برفع إشارة منع السفر التي وضعتها بعد شكوى قدّمتها ضدّه مجموعة ناشطين لبنانيين اتهمت فيها سلامة بسوء الإدارة المالية، من أجل تسهيل سفره. وعليه، فإنّ منع خروجه كلّياً من لبنان يُسقط سبب ملاحقته من الأنتربول. أمّا الهدف الثاني الذي يؤكّد عدم تأثّر قرار وقف التعقّبات على التحقيقات فهو عدم رفع القضاء الألماني على الحجوزات عن الأملاك.

الشبهات قوية

تقتصر التحقيقات الفرنسية مع رياض سلامه وشقيقه رجا على تهمتين أساسيتين هما تبييض الأموال والتزوير. ذلك أن ليس من صلاحية القضاء الفرنسي التحقيق مع سلامة في القضايا الأخرى المرفوعة عليه محلّياً مثل الاختلاس والتهرّب الضريبي وصرف النفوذ. وبقراءة للوقائع يتبيّن بسهولة أنّ "القضاء الفرنسي يمتلك قرائن قوية على الاتهامات الموجهة"، برأي ضاهر، "من دون أن يعني ذلك أن التهم مثبتة. فتبييض الأموال نتج من تتبع التحويلات المالية أوروبياً، والتي تبيّن أنّها أتت من "شركة فوري" التي يملكها شقيقه، والمعنية بتسويق سندات الدين اللبنانية إلى شركات سلامة في الخارج، وتمّ شراء بعض العقارات بهذه الأموال. أمّا التزوير فمن المرجّح أن يكون القضاء الفرنسي مشتبهاً في تزوير الحاكم وشقيقه مستندات لتبرير ذمّتيْهما الماليتين". من هذا المنطلق، فإنّ وضع الأمور في نصابها الصحيح، يفترض بديهياً أنّه إذا لم يكن هنالك ما يدلّ على عدم شرعية الأموال المستخدمة في شراء العقارات، فلا يستطيع الفرنسيون الملاحقة على أساس تبييض الأموال في فرنسا. خصوصاً بعد التحقيق في لبنان واكتشاف عناصر ومستندات وأدلّة موجودة في الملفّ، وحصولهم على محاضر تحقيق أوضحت الصورة بشكل جليّ.

لكنّ الأمور تبقى بخواتيمها كما يقال، والوصول إلى نتائج قاطعة في هذا الملف كفيل بكشف الكثير من خيوط الأزمة واستعادة الثقة بلبنان دولياً.