ينهمك المحلّلون منذ بدء الانهيار في نهاية العام 2019 بمتابعة مؤشّر النّاتج المحلّي الإجمالي (GDP). فأهمّية هذا المؤشّر لا تقتصر على قياس حجم الاقتصاد وكفايته، إنّما على كونه المقياس الفعلي لبقية المؤشّرات. وعلى أساسه تقاس استدامة الدين العام، وفعالية الموازنات العامّة، وجدوى التحويلات، ومتوسّط دخل الأفراد. والتغيّرات الطالعة والنازلة في هذا المؤشر تبقى المعيار الحقيقي لتحديد درجة تعافي الاقتصاد واستعادته للثقة داخليّاً وخارجيّاً وقدرته على مواجهة التحديات. 

بيّنت الحسابات الوطنية التي أعدّتها إدارة الإحصاء المركزي ارتفاع الناتج المحلّي الإجمالي مقيّماً بالليرة بحسب سعر صرف السوق، من 96.9 ألف مليار ليرة في العام 2020 إلى 245.6 ألف مليار ليرة في العام 2021. وقد اعتمد الإحصاء المركزي سعر صرف 3879 ليرة مقابل الدولار في العام 2020، و12414 ليرة مقابل الدولار للعام 2021. 

النمو 2٪ في العام 2021 

أمّا في حال احتساب النّاتج على أساس سعر الصّرف الرسمي (سعر صرف اسمي معدّل حسب الاختلافات في معدّل التضخّم) فيتبيّن ارتفاعه من 60.5 ألف مليار ليرة إلى 61.7 ألف مليار. وعليه، يمكن الاستنتاج أنّ النّاتج المحلّي حقّق نمواً بنسبة 2 في المئة في العام 2021، خلافاً لكلّ التقارير الدولية، وفي طليعتها تقارير البنك الدولي التي تقول إنّ الاقتصاد اللبناني حقّق نموّاً سالباً أو انكماشاً في العام 2021 بنسبة (-7 ٪). 

دخلُ الأفراد يعتمد على التحويلات 

مقابل النموّ المحقّق انخفض إجمالي الدخل القومي (GNI) من 25 مليار دولار في العام 2020 إلى 19.8 مليار في العام 2021، أي "أقلّ بمقدار 2.6 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 19.8 دولار بسبب صافي الدخل الاستثماري السلبي"، بحسب تحليل فريق الأبحاث الاقتصادية في بلوم بنك. بينما بلغ الدخل القومي الإجمالي المتاح GNDI 24.3 مليار دولار، أي أعلى من الدخل القومي الإجمالي بمقدار 7.1 مليار دولار، ويرجع ذلك، بحسب التحليل، إلى "تحويلات المغتربين والمنح والمساعدات المادية الخاصة والعامة ". وهو ما يؤشّر إلى اعتماد الاقتصاد بشكل كبير جداً على المساعدات التي تستعمل مرة واحدة. 

الاستثمارات ترتفع، ولكن! 

اللافت في الحسابات هو ازدياد الاستثمارات من 3370 مليار ليرة في العام 2020 إلى 7700 مليار في العام 2021، أي أنّها زادت بنسبة 128 في المئة، بحسب الأسعار الثابتة، وليس سعر السوق، في حين تراجع الاستهلاك بنسبة 7 في المئة من 69700 مليار ليرة إلى 64700 مليار ليرة في العام 2021، وحقّق قيمة صافي الصادرات الوطنية (الصادرات بالأسعار الثابتة – الواردات بالأسعار الثابتة) عجزاً بنسبة (-4.8)، بدلاً من أن تحقّق فائضاً نتيجة زيادة الصادرات مع تراجع سعر الصرف. إذ ارتفع العجز في هذا البند من (-12.5 ألف مليار ليرة) في العام 2020، إلى (-13.1 ألف مليار ليرة) في العام 2022. ويرجع فريق الأبحاث الاقتصادية في بلوم بنك هذا الواقع إلى واحد من هذين السببين، إمّا الحاجة إلى توسيع القدرة الإنتاجية المحلية بحيث حلّت المنتجات الوطنية محلّ الواردات البديلة جزئياً، وإمّا الرغبة في تخزين السلع الرأسمالية والمواد الخام نتيجة الدعم الذي قدّمه مصرف لبنان إلى هذه السلع وغيرها من السلع المستوردة في تلك الفترة". 

الصادرات الفعلية تزداد بمعدّلات بسيطة 

أمّا على صعيد الصادرات الفعلية المقيّمة بسعر السوق فقد أظهرت الأرقام زيادة بنسبة 12 في المئة في صادرات السلع والخدمات، على الرّغم من أنّه كان من المتوقعّ أن ترتفع الصادرات بنسبة أكبر بكثير، لأنّ أسعار الصرف انخفضت بشكل كبير من متوسط ​​3879 إلى 12414 ليرة لبنانية لكلّ دولار أميركي. "وربما يكون ذلك أمراً مفهوماً"، بحسب تحليلات فريق الابحاث "ومؤشّراً واضحاً على أنّ الاقتصاد لا يملك القدرة على المنافسة". وعليه، يمكن الاستنتاج أنّ "الحديث عن تغيير هيكل الاقتصاد اللبناني والعمل على انتاج المزيد من السلع (بما في ذلك الزراعة)، وتقليل الاعتماد على الخدمات، بتحفيز من ضعف أسعار الصرف، غير دقيق. المفارقة هي أنّ الاعتماد على هذه النظرية يفوّت فرصة تطوير القطاعين معاً، وليس إنماء واحد على حساب الآخر. خصوصاً إذا نُفّذ المزيج السياسي الصحيح (بما في ذلك أسعار الصرف المعقولة). وحتّى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهي القطاع الرائد في الاقتصاد الجديد، تشتمل على الأجهزة والبرمجيات، أو إنتاج السلع والخدمات التكنولوجية. 

واقع القطاعات بعد عامين من الانهيار 

تظهر الأرقام أنّ نمو القطاعات وتطورها بعد عامين على الانهيار كانا مختلفين، ففي ما يتعلّق بالسلع، سجلت الزراعة نمواً بنسبة 9 في المئة والبناء بنسبة 22 في المئة، ولكن التصنيع انخفض قليلاً بنسبة -2 في المئة. في حين نمت الخدمات بنسبة 23 في المئة، والأعمال التجارية بنسبة 25 في المئة، والتعليم والصحّة بنسبة 19 المئة "وبعبارة أخرى، فإنّنا نرى - كما ينبغي أن يكون - توازناً إلى حد ما في الناتج القطاعي"، بحسب فريق الابحاث. 

الناتج مقيّماً بالدولار 

أخيراً، يبقى أنّ النّاتج المحلّي الإجمالي بالدولار، بحسب سعر صرف السوق الحقيقي، قُدّر بـ 19.8 في العام 2021، متراجعاً من 25 مليار دولار في العام 2020. ويعزى هذا التراجع في الناتج المقوّم بالأسعار الحقيقية إلى الانخفاض في الناتج الحقيقي القطاعي في قطاع الخدمات المالية بنسبة 51 في المئة. "وهو الأمر الذي غذّى من دون أدنى شكّ الارتفاع المتزايد للاقتصاد النقدي"، بحسب فريق الأبحاث. "وأدّى أيضاً إلى تغذية فكرة مفادها أنّ البنوك يمكن الاستغناء عنها. مع العلم أنّ جميع الأدلّة الدوليّة تظهر بوضوح أنّ البنوك والوساطة المالية حيوية للنمو، بما في ذلك النمو المتوازن، إذ لا يمكن الاستغناء على البنوك للحصول على التمويل". 

قدّرت إدارة الإحصاء المركزي تكلفة دعم الواردات في العام 2021 بـ 33 تريليون ليرة لبنانية أو نحو 2.7 مليار دولار (بسعر 12414 ليرة لكلّ دولار أميركي). أمّا احتياطيات مصرف لبنان فقد انخفضت بمقدار 6.2 مليار دولار في العام 2021، علماً بأن 44 في المئة من هذه الاحتياطيات أُنفقت على دعم "طائش"، وهو ما مثّل إهداراً هائلاً للموارد وحقوق المودعين على السواء.